ليست صورة إيمان البحر درويش
إنها ليست صورة الفنان إيمان البحر درويش، بل هي صورة الكرامة الإنسانية بعد أكثر من 12 عامًا على الثورة من أجلها، أو هي صورة هذه الثورة بعد عشر سنوات من خطفها، وحبسها، وتعذيبها، والتنكيل بها في كلّ مناسبة.
هي صورة الفرد حين تفترسه السلطة في ظلّ تواطؤ المجتمع بالصمت، وبالعجز عن الرفض، أو بالقبول بأمر واقع مصنوع بعناية. هي تشبه صورة الشاب، خالد سعيد، بعد اعتقاله وتعذيبه حتى الموت. صحيح أنّ الفنان على قيد الحياة، تحيطه دمعات الملايين ودعواتهم، تتمنّى له النجاة والسلامة، لكنّها حياة هي والموت سواء، إذ لا فرق بين الموت قهرًا والقهر موتًا.
في تراجيديا رحيل الشاب، خالد سعيد، اتّحدت كلّ آلات السلطة في هدر دمه، الشرطة التي حبست وعذّبت وقتلت، والطب الشرعي الذي زيّف تقرير الوفاة، والقاضي الذي جعل الجناة يفلتون من العقاب الذي يستحقّون، لكن تلك الفاجعة استطاعت، أيضا، أن تستنهض داخل الإنسان المصري الإحساس بالكرامة المهدرة، فاندفع الملايين إلى انتفاضة الكرامة الإنسانية.
أعادت مأساة مقتل الشاب السكندري تعذيبًا على يد اثنين من أفراد الشرطة الحياة إلى الأحزاب والقوى السياسية المتيبّسة، لينطلق مدفع التغيير في مصر، فيعود محمد البرادعي من الخارج، ويطرح نفسَه قائدًا للمشروع، منطلقًا من منزل خالد سعيد في الإسكندرية، داعيًا إلى الحشد بالتوكيلات المليونية، ثم تنصهر الأحلام كلّها في ميدان واحد، يتسع لكلّ التناقضات والاختلافات السياسية والإيديولوجية، وتنمحي معه الفوارق الاجتماعية، لتجتمع الأمة على مطالب العدالة الاجتماعية والحرّية والكرامة الإنسانية.
إيمان البحر درويش من الاسكندرية، وخالد سعيد كان منها أيضًا، الأول تنشر ابنته صورته بتعليق مقتضب تقول فيه "سيشهد التاريخ إن ده بقى إيمان البحر درويش"، هذه الصورة هزّت مواقع التواصل الاجتماعي، وفرضت نفسها الموضوع الأول، وخلعت القلوب... لكن الغضب لا يزال غضًّا، لا يقوى على الخروج إلى الشارع، ذوو الغضب يحبسونه في البيوت والصدور مخافة بطش الباطشين.
ماذا فعل إيمان البحر درويش ليكون مصيرُه على النحو الذي نطقت به صورته التي نشرتها ابنته، وأعادت نشرها الصحف والمواقع المصرية المسبّحة بحمد الاستبداد، وهذا بحدّ ذاته غريبٌ وملفت؟ هل يريد المستبدّون أن يجعلوا من هذه الصورة عبرة لكلّ من يفكّر بالنطق بما لا تهوى السلطة سماعه؟
الثابت أنّ كلّ ما فعله الفنان والنقيب السابق للموسيقيين، وحفيد مغنّي الثورة في بدايات القرن الماضي، سيد درويش، أنّه عبّر عن الأسى على التفريط في حقوق مصر بنهر النيل، وانتقد التراخي في معالجة هذا الملفّ، فكان أن اختفى ولم يظهر عامين كاملين، حتى نشرت ابنته الصورة التي يبدو فيها بقايا إنسان، وبقايا وطنٍ شاخت ملامحه وتشوّهت خرائطه.
بعد كلامه عن سد النهضة، أصدر هاني شاكر، نقيب الموسيقيين من بعد إيمان البحر درويش، بيانًا أمنيًا من الدرجة الأولى، حمل توقيعه، وقال فيه "تستنكر نقابة المهن الموسيقية ما فعله وقاله المطرب إيمان البحر درويش في بثّ مباشر على صفحته والإتيان بأفعال تحطّ من قدر أي فنان وموسيقي مصري يقبل بهذا الأسلوب المشين. وأكدت النقابة أنّ ما قاله وفعله إيمان يتنافي مع كلّ القيم المجتمعية الرصينة والثقافات الإنسانية القويمة. وشدّدت نقابة المهن الموسيقية على أنّ رواسخ المجتمع التي كانت العامل الأول في بناء مجتمع قيمي صالح، وتؤكّد النقابة على ثقتها في قيادات مصر وأجهزتها التي ثبت قدرتها على إنجاح مرحلة حاسمة في تاريخ الوطن .. تحيا مصر".
من الوارد جدًا أن يخرج علينا هاني شاكر متألما من صورة زميله الفنان، وسيتجاهل أنّ بيانه الصادر بصفته نقيبًا كان من مسوّغات استباحة البحر درويش حتى وصلنا إلى الصورة التي عليها الآن.
كما يأتي ظهور الشهيد الحي إيمان البحر درويش على هذه الحالة، بينما زملاؤه يتعاركون على الألقاب والأرقام، ويتنافسون على أولوية السفر والغناء في موالد الترفيه على المسارح السعودية، فيريد علي الحجّار من جماهير الأمة أن تحضر في معركته مع مدحت صالح، على من يكون الأول في حفلات "100 سنة غناء"، بينما حفيد سيد درويش يظهر أخيرًا، وكأنه مومياء عمرها أكثر من 200 سنة!
لا أعرف كيف يمكن أن يقف فنانٌ على مسرح ويواجه الجمهور ويتبادل معه القفشات والابتسامات، بينما إيمان البحر الدرويش يظهر على هذه الصورة؟ كيف يمكن أن يقبل فنان الغناء فوق عظام زميلٍ له تكسّرت من التعذيب والتنكيل، بل كيف يمكن أن يستمتع أحدٌ بلقب الأول أو الأفضل، بينما الفن كلّه مهان ومنتهك؟ كيف يمكن لهاني شاكر أن ينظر إلى وجهه في المرآة ويتحسّس ملامحه، بينما زميله الذي حرّض عليه في بيان رسمي، يرقد بهذه الحالة؟ كيف يمكن لمن يدّعي أنه فنان أن يتألق في الغناء لسلخانة تعذيبٍ اسمُها الوطن؟