ليبيا .. الحوار السياسي بين تطلعات متنافرة
على الرغم من تسارع مسارات الحوار الليبي، فإنها تواجه تحدّي الوصول إلى وثيقة مركزية تحدد ملامح المرحلة المقبلة، فمع مضي النقاش السياسي، فمضي النقاش بدون التلاقي على الخطوط العامة لتعريف الدولة والعلاقة ما بين مكوناتها، يزيد من احتمال تكرار الأزمات الدستورية، وهو ما يثير التساؤل عن مدى تضافر التوجهات الدولية والمحلية في معالجة الخلاف بين الليبيين، والوصول لتراض وطني حول صيغة للحل السياسي.
وفقاً لخطة الأمم المتحدة، يسير الحوار السياسي في ثلاثة مسارات: الوضع الدستوري، المناصب السيادية، ومسار يتعلق بالسلطة التنفيذية، وبجانب تعدد مهام الحوار السياسي، يكشف دخول كيانات جديدة لمجال الحل السياسي عن اختلاف المطالب السياسية، بحيث يمكن القول إن ثمة عملية اصطفاف تتبلور حول بديلين؛ الدخول في مرحلة انتقالية خامسة أو الاستفتاء على مشروع الدستور والانتقال إلى المرحلة الدائمة. وتكمن وراء حزم الخيارات قوى محلية ودولية، تشكل، في مجملها، تحدياً لحشد الكتل وراء الانتقال السلمي.
بجانب تعدد مهام الحوار السياسي، يكشف دخول كيانات جديدة مجال الحل السياسي عن اختلاف المطالب السياسية
وحسب المهام الجزئية، اقتصرت مناقشات حوار بوزنيقة في المغرب على وضع خريطة طريق لتطبيق المادة 15 من اتفاق الصخيرات، بتفعيل الاختصاصات المشتركة للمجلسين، فيما يتعلق بالتوافق حول شاغلي المناصب القيادية؛ محافظ مصرف ليبيا المركزي، رئيس ديوان المحاسبة، رئيس جهاز الرقابة الإدارية، رئيس جهاز مكافحة الفساد، رئيس المفوضية العليا للانتخابات وأعضائها، ورئيس المحكمة العليا والنائب العام. وعلى سبيل المثال، يمكن ملاحظة أن المشاركين في الحوار توصلوا إلى عملية اختيار مجلس إدارة المصرف المركزي، تقوم على تقليص التحيزات الإقليمية وقاعدة الحصص المعمول بها على مدى الفترة الانتقالية. ويمكن أن يساهم هذا التوجه في بناء سياسات تدعم الخروج من الأفكار الانقسامية والجهوية، ولعل التفكير في انعقاد موحد لمجلس النواب سوف يساعد على انتهاء مرحلة التنازع على القرار السياسي، فقد كانت المشكلة متركّزة في تشتت اجتماعات المجلس بين شرق البلاد وغربها، وخضوعه للصراع المسلح .
وبدأ المسار الدستوري اجتماعاته في القاهرة، 28 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) بمشاركة وفود أمنية وعسكرية للإعداد لمرحلة ما بعد التهدئة في وسط ليبيا، والتمهيد لأعمال اللجنة العسكرية المشتركة (5 + 5)، وقد أشارت كلمة مجلس الدولة في لقاء المسار الدستوري في القاهرة (11 - 13 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري) إلى نقطة مهمة، وهي مرجعية الهيئة التأسيسية، بمعنى طرح مشروع الدستور للاستفتاء أو تغيير الوضع الدستوري طريقاً لإعادة تأسيس المشروعية القانونية. ويتلاقى رئيس مجلس الدولة مع هذا التوجه، عندما تلقى ما يفيد باستعداد المفوضية العليا للانتخابات لإجراء الاستفتاء على الدستور يوم 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل. وتتلاقى هذه التوجهات مع بيان أعضاء مجلس شيوخ ليبيا حول الحل الدستوري، أكتوبر 2020، حيث اعتبروا أن الحل الدستوري يمثل مساراً إيجابياً، وطالبوا بتقديم دعم دولي له، وعدم الدخول في مرحلة انتقالية جيدة، ويرى أن هناك إمكانية لتعديل دستور 1951، ما يمثل طرحاً إضافياً إلى مشروع الدستور الحالي.
وحسب بيان البعثة الأممية، 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، تحاول الأمم المتحدة بناء خريطة للحوار السياسي، تقوم على استيعاب نتائج مسارات دول الجوار ضمن مسار مونترو (سويسرا) ليشكل الملتقى الجامع للأطراف الليبية، ما يمثل إحياء للخطة التي كان قد عرضها غسان سلامة في بداية توليه رئاسة البعثة. وقد اعتمدت خريطة الأمم المتحدة للحل السياسي على وضع مراحل متتابعة للوصول إلى "ملتقى الحوار السياسي الليبي"، تبدأ مع نهاية أكتوبر وتنتهي في نوفمبر 2020، تحت صيغة منتدى الحوار السياسي الليبي (LPDF) في تونس، بحيث تكون مهمتها الترتيب لانتخابات وطنية في أقرب وقت ممكن لاختيار سلطة تنفيذية، وذلك على مرجعية قرار مجلس الأمن رقم 2510 لسنة 2020، وتوصيات مونترو، بالإضافة إلى تفاهمات بوزنيقة والقاهرة.
تتنافس المكونات الليبية في الظهور ضمن الفاعلين السياسيين، وطرح تصوراتها للمرحلة المقبلة
من الناحية السياسية، يمكن تفهم إعلان البعثة الأممية أن مسار مونترو، دون غيره، ملزم بوجود رغبة في ضبط التفاوض، غير أنه من الناحية الواقعية، وبسبب تحيزات البعثة، فإنه يضعف حيوية التفاوض في المسارين الآخرين، ويقلل من مصداقية التقارب بين الأطراف الليبية، وخصوصاً في ظل امتناع المغرب عن المشاركة في مسار اجتماعات مؤتمر برلين، ولكي ترتقي مصداقية التوجه إلى الحل السلمي، يكون على الأمم المتحدة توحيد مسارات الحوار، والقبول بنتائجها المتوافقة مع وقف الحرب وإحلال السلام.
ويعد هذا الموقف امتداداً لسياسات عمل البعثة الدولية، وحسب بيانها بشأن الاجتماع التشاوري، 7 - 9 سبتمبر/ أيلول 2020، اعتبرت، استيفاني ويليامز، اقتراحات سرت مقراً مؤقتاً للحكومة الليبية، يعزز فرص حل الصراع، وهو ما يتقارب مع أطروحات بعض الليبيين لهيكلة السلطة والعلاقات بين الأقاليم، بشكل يعزّز الجدل حول أن استمرار ما يعرف بدولة طرابلس صار عبئاً على الوحدة الوطنية، ولذا ثارت أفكار حول الفيدرالية والحكم الذاتي وتوزيع مقرات الحكم على الأقاليم، وهي صيغ مغلفة بالخلاف حول توزيع السلطة والثروة والتهميش. تضع هذه الأفكار والبدائل الدولة أمام خيارات صعبة، تتساوق كلها في خيارات حدّية، إما استمرار الحرب أو تداعي الروابط السياسية والوطنية.
قد يعكس تحيز الأمم المتحدة لمسار سويسرا نوعاً من التمسّك بالمركزية الأوروبية ـ الغربية، وتهميش المساهمة الإقليمية في الحل السياسي، ما قد يفتح الطريق أمام ظهور نزاعاتٍ أخرى، تضعف احتمالية التوصل إلى الاستقرار السياسي، ولعل تبني خريطة الطريق الأممية إلى الانتخابات حلاً أخيراً للأزمة السياسية، من دون الاهتمام بتنوع آراء الليبيين الداعية إلى الاستفتاء الدستوري، يمثل مدخلاً إلى تمديد الصراع السياسي.
في هذا السياق، تتنافس المكونات الليبية في الظهور ضمن الفاعلين السياسيين، وطرح تصوراتها للمرحلة المقبلة، فمع بدء مسارات الحوار السياسي، شرع في تأسيس تيار سياسي في 7 يوليو/ تموز 2020، ليكون مظلة لدور سياسي يتطلع إليه للتعبير عن تيار جماعة التغيير الليبية. ومن الوجهة السياسية، يمثل هذا التوجه إضافة إلى الحل السلمي، عبر إدماج مجموعات سياسية انقطعت عن المشاركة اعتراضاً على شرعية اتفاق الصخيرات، ما يمكن أن تشكل نقطة إضافية تقلل التسرّب من التفاعلات السياسية.
يمثل وقف إطلاق النار واستمرار الحوار كابحاً للصراع الدولي على ليبيا، حيث بدت ملامح إيجاد حالة تنافسية على السلم
وتغلف حالة انهيار الدولة الخلفية العامة لموقف وتوجهات تيار "يا بلادي"، فمشكلات نقص الخدمات العامة والفساد وقفت خلف استمرار الأزمة فترة طويلة. وقد حاول الرئيس السابق للمؤتمر الوطني الليبي العام، نوري أبوسهمين، معالجة هذه المعضلة من خلال تضييق الرقابة الشعبية على الفاسدين المستفيدين من حالة الحرب، بالإضافة إلى تجهيز المشروع الوطني وقاية من البقاء في حالة الصراع ورسم خريطة طريق للمستقبل، بحيث تتضافر هذه العوامل في تكوين دولة تحمي الاقتصاد الوطني، تحت مظلة الدولة المدنية. ويمكن قراءة عودة أبو سهمين إلى المشهد السياسي محاولة لتجميع التيار الموالي لحكومة الإنقاذ الوطني، السابقة، ودمجه في العملية السياسية. ووفق مكنات خطاب أبوسهمين، قد تمثل هذه التوجهات محاولة مناسبة للانخراط في العمل السلمي وإنهاء العزلة عن المشاركة السياسية.
ومع بداية أكتوبر الجاري، بدأ يتشكل حراك يجمع ما بين الإطار القانوني والشعبي، شارك فيه كل من الهيئة التأسيسية، مجلس الدولة، مجلس النواب، 40، 32، و31 عضواً على الترتيب، بالإضافة إلى مؤسسات المجتمع المدني وآخرين، ويعد اقتراب الهيئة من النصاب القانوني عاملاً مساعداً في توفير الأرضية القانونية للمطالب الواردة في الرسالة الموجهة إلى الأمم المتحدة، فهي، بجانب التمثيل المعتبر للجهة التشريعية، تضع مطلب الاستفتاء ضمن البدائل المحتملة للحل السياسي.
تسعى البلدان المنخرطة في مؤتمر برلين إلى البحث عن نطاق نفوذها في السياسة الليبية
ويذهب محتوى الرسالة إلى أن تجنب البعثة الدولية للاستفتاء يعد بمثابة إهدار لمسار دستوري، تم إقراره منذ بدء المرحلة الانتقالية، ويطيح فكرة الوصول إلى الدستور الدائم، ما يضع البلاد أمام فوضى المراحل الانتقالية. وعلى هذا الأساس، يمكن النظر إلى أن محاولات إكساب المؤسسات شرعية سياسية يتطلب الرجوع إلى الشعب، وليس فقط الاقتصار على تداول جلسات الحوار السياسي.
على أية حال، يمثل وقف إطلاق النار واستمرار الحوار كابحاً للصراع الدولي على ليبيا، حيث بدت ملامح إيجاد حالة تنافسية على السلم، فقد سار حراك الدول نحو تقييم مواقفها السابقة وتطوير تحالفاتها مع الأطراف الليبية. وفي هذا السياق، تحاول الجزائر ترتيب سياستها تجاه الأزمة الليبية، بالدخول على خط الحوار الليبي، لكنها لم تصل إلى مرحلة متقدمة في بناء علاقاتها مع الأطراف الليبية، أو أعدت نفسها لتكون مقرّاً لواحدة من جولات الحوار. ولعل أهم التحديات التي تواجه الجزائر تتمثل في وجود مسارات قائمة للحوار، ليس فقط في دولتي الجوار، ولكن أيضاً في بلدان أخرى، كمصر وسويسرا. ولذلك، تسعى إلى توسيع علاقاتها مع شخصيات ليبية ومع روسيا لتعويض تأخر تفاعلها. وبالتالي، فإن محاولة الجزائر الدخول على التفاعلات السلمية سوف يتطلب تكوين ميزات إضافية جاذبة للحل السياسي، بحيث لا يتحوّل دورها إلى مسار مواز قليل التأثير في النتائج النهائية.
لا بديل محل توافق، يمكن للبعثة والأطر الدولية الاقتراب من دور الوسيط، والابتعاد عن التدخل لفرض خياراتٍ دون غيرها
وبجانب دعم دول جوار ليبيا مسارات الحوار، تسعى البلدان المنخرطة في مؤتمر برلين إلى البحث عن نطاق نفوذها في السياسة الليبية. وهنا، تبدو روسيا أكثر البلدان نشاطاً في محاولتها للبقاء ضمن الأطراف المؤثرة داخل الأمم المتحدة، كما تحاول تعزيز أوراقها في السياسة الليبية، فمن جهة تحاول تطوير تحالفاتها من أنصار الجماهيرية ومكونات الجماعة الإسلامية المقاتلة، لمساندة وجودها العسكري في وسط ليبيا. ويمكن قراءة لقاء المبعوث الروسي، ميخائيل بوغدانوف، مع نوري أبوسهمين مؤشراً إلى محاولة توسيع النفوذ الروسي، بغض النظر عن الأيديولوجيا السياسية. وفي هذا السياق، تعد خطوة الاتحاد الأوروبي رفع اسمي عقيلة صالح ونوري أبوسهمين من لائحة عقوبات منع السفر وتجميد الأموال عاملاً مساعداً في حشد المكونات الليبية للحوار السياسي، من دون التمييز على أرضية التصنيف السياسي.
ويمكن قراءة محتوى الاجتماع الوزاري حول ليبيا، 5 أكتوبر، مؤشّرات متقاربة مع الدخول في مرحلة انتقالية جديدة تقوم على محورية الدور السياسي لمدينة سرت، وتحييد قطاع النفط وضمان شفافية توزيع عائداته بين أقاليم الدولة. وعلى الرغم من إشارته إلى القضايا الخلافية، لم يتم إدراجها في قائمة اجتماعات الحوار السياسي، ما يشير إلى وجود توافق على الحلول الجزئية لفك اختناق الوضع القانوني للسلطات القائمة، وتأجيل النظر في قضايا نظام الحكم وتوزيع الثروة.
وتبدو الصورة العامة للحوار السياسي غير حاسمة لخلافات كثيرة. وبهذا المعنى، يشكل ظهور خيارات متباينة حول المرحلة المقبلة قيوداً على المسار السلمي. وفي هذا السياق، تعد تحيزات البعثة الأممية عاملاً سلبياً في الترتيب للانتقال السلمي، فمن جهة، يساهم استبعادها خيار الاستفتاء في تهميش الكيانات السياسية الداعية إلى الاستفتاء على مشروع الدستور. ومن جهة أخرى، تقتصر توصياتها على إعادة تأسيس سلطات على قاعدة دستورية هشة، يصعب الاطمئنان لقدرتها على التصدّي لأعباء المرحلة المقبلة. وبالتالي، فإنه باعتبار أنه لا بديل محل توافق، يمكن للبعثة والأطر الدولية الاقتراب من دور الوسيط، والابتعاد عن التدخل لفرض خياراتٍ دون غيرها.