لوثة فاغنر: دراما اليوم الواحد
24 ساعة استحوذت فيها مليشيا فاغنر الروسية على وسائل الإعلام والمنصّات الاجتماعية في كل أنحاء العالم، وابتلعت أخبارُها كل ما سواها من أخبار ومتابعات لنقاطٍ لا تقلّ سخونة في أماكن عدة.
على طريقة أفلام سينما الواحد، اشتعلت ثم انطفأت سريعًا حكاية عصابات فاغنر والرئيس الروسي، بإيقاع مذهل في سرعته، إذ مرّت أحداث السيناريو خاطفًةً، وسرعان ما توقفت في لمح البصر، وكأننا بصدد مشاهد من دراما الموقف الواحد، تعطّل مصعد أو خطف طائرة في الجو واحتجاز ركّابها رهائن، لكنه الموقف الذي يلخّص موضوعًا كبيرًا.
على هذا النحو، لم تختطف فاغنر الأنظار كلها، بل اختطفت روسيا ورئيسها يوما واحدا، انتهى بالتفاوض، ثم الإفراج عن الرهينة، مع ضمان سلامة الخاطف المغامر، وخروجه من المشهد. وقد كان من المفترض والإيقاع بهذه السرعة والإثارة أن يكون طرح الأسئلة هو السمة الغالبة على المتابعين والمراقبين، سواء منابر إعلامية محترفة، أو كهنة سوشيال ميديا، يمتلكون دومًا اليقين والتعاويذ الجاهزة لحلّ أي لغز وفكّ كل طلسم، غير أن الذي حدث كان عكس ذلك تمامًا، إذ طغت شهوة تقديم الإجابات الصارمة على الرغبة في الاستفهام، وانهمرت التحليلات ورسم المسارات والقطع بالمآلات والنهايات الحتمية للحدث الذي لا يزال مشتعلًا.
في هذه الأجواء المشبعة بأبخرة الشعوذة السياسية والإعلامية المنبعثة من أبراج المحلّلين والخبراء الكهنة، أعيدت هندسة العالم ورسم خرائطه الجديدة، ومنهم من أسقط أنظمة عربية لم يتورّع عن تحديدها بالاسم، نتيجة ذلك الذي جرى في روسيا وأطاح حكم الرئيس بوتين، وفكّك الجمهورية ذات الأحلام الإمبراطورية، ومنهم من جعل فورة التمرّد الخاطفة ثورة جديدة، أو انقلابًا آخر يُضاف إلى أرشيف ضخم لهذه البلاد، ليتم استحضار هتلر وستالين ولينين وغورباتشوف من التاريخ، لكي يقولوا كلمتهم في التغيير الروسي الجديد الذي صنعه زعيم عصابة مسلّحة لها سجلٌّ طويلٌ من الجرائم في عديد المناطق، وخصوصًا في المنطقة العربية، وخصوصًا في سورية وليبيا. وبالرغم من ذلك، لم يتمالك بعضهم نفسه، مدفوعًا بالرغبة المحمومة في إظهار الفراسة، وهو يتكلّم عن زعيم فاغنر مجرم الحرب، بريغوجين، بوصفه أيقونة كفاح ضد المجرم الأكبر، فلاديمير بوتين، ويبتهل إلى الله أن ينصر الأول على الثاني.
وسط هذا المناخ المعبأ بجنون الانفراد والسبق ضاعت، للأسف الشديد، قراءاتٌ واعيةٌ وجادّة للحدث، حاولت أن تلفت الأنظار والأدمغة إلى ما هو كليّ وأساسيّ في تفاصيل المسألة، لكي يكون هناك فهم عقلاني للمقدّمات، دونما انشغال أو اشتعالٍ بشهوة وضع النهاية التي لا تقبل الشك للحدث الذي لم تمض على بدايته سوى سويعات، غير أن هذه المحاولات ذهبت أدراج الرياح في هذه المكلمة العاصفة التي تسيّدها، كالعادة، دراويش التحليل والعارفون ببواطن كل ما كان وكل ما هو كائن وكل ما سوف يكون في المستقبل.
مؤسفٌ أن العرّافين تفوقوا، في هذا السباق المحموم، على العارفين فعلًا بتاريخ المسألة الروسية، قبل العصر السوفييتي وبعده، فبات الوصول إلى قراءةٍ دقيقةٍ مسألة شبه مستحيلة، في ظل هذا الطقس التحليلي السيئ، الذي طاولت آثاره منافذ إعلامية رصينة ومحترفة، فيصدمك أحد المحللين الاستراتيجيين على شاشة "الجزيرة" باستدعاء أحداث 7 أيار 2008 في لبنان لمحاولة تحليل مغامرة فاغنر 24 يونيو 2023 في روسيا، ليضع حزب الله اللبناني في سياق الحديث عن ظاهرة فاغنر، وهذا كلامٌ مهينٌ ومسيءٌ لفكرة المقاومة، إذ، وبالرغم من المآخذ العديدة على حزب الله اللبناني في المأساة السورية، بل وفي تعقيد المشهد السياسي الداخلي للبنان، إلا أنه يبقى حزبًا مقاومًا، كان مصدر فخرٍ لقطاع كبير من الجمهور العربي إبّان فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، ولا يمكن لعاقلٍ إنكار ريادته في مشروع مقاومة العدو، حتى إجباره على الانسحاب من لبنان، في مسيرة ناصعة سقط فيها شهداء والتفّ حولها الشعب اللبناني.
هذا حزبٌ، يمكن أن تختلف معه كليًا وجزئيًا، لكنه يبقى حزبًا سياسيًا لبنانيًا، ومكوّنًا أصيلًا من مكوّنات الحالة اللبنانية، لا يجوز، في أي حال، وضعه في سياق الحديث عن مغامرة عصابات إجرامية قوامها مسلّحون مرتزقة للإيجار.