لنا لا لـ"نانانا"

19 نوفمبر 2024

(طه القرني)

+ الخط -

استمع إلى المقال:

انتقلت الثورات العربية بالعدوى، وبالتأثير المباشر والمتوقّع، من تونس إلى مصر إلى غيرهما، طوال موجتَين ثوريتَين ممتدَّتين ومؤهلتَين لثالثةٍ أقوى وأكثر اتساعاً، وهو أمر معتاد ومكرّر ومتوقّع، فالمصير العربي الواحد ليس اختياراً، إنما قضاء تاريخي وجغرافي. ولا يعني إخفاق مشروعات وحدوية، مثل القومية العربية أو غيرها، إمكانية تجاوز هذا المصير، إنما استبدال هذه المشروعات بغيرها، من دون معاندة الواقع ومقرّراته، أو إن شئت إكراهاته.
يعلم أصحاب مشروعات الهُويَّات البديلة ذلك، من ينفقون الملايين على الأشورة والفنيقة والكميتة، لكن حين يجدّ الجدّ ينفقون مئات الملايين حتى لا يطاولهم ما طاول غيرهم، من مصائر واحدة ومتوقّعة، وفق أحكام التاريخ والجغرافيا كما قلنا. من هنا، جاء دعم أنظمة خليجية الانقلاب العسكري في مصر (3 يوليو/ تمّوز 2013). فنجاح مشروع ديمقراطي في أيّ بلد عربي لا يعني سوى انتقاله إلى غيرها، ومن ثمّ زوال الأنظمة الحالية، واستبدال أخرى بها أكثر انحيازاً لشعوبها.
قد تبدو هذه المقدّمة تبريراً استباقيا للكلام عن موسم الرياض، وما استدعاه من مناقشاتٍ ساذجةٍ عن الموقف من الغناء والرقص في بلاد الحرمَين، وأخرى جادّة عن مفاهيم التحديث. لكن على العكس، آثرتُ التأكيد على الحقّ في تناول أيّ عربي شأن أيّ بلد عربي، قبل أن أتجاوز الشأن السعودي إلى شأننا معه، و"نا" في عنوان هذا المقال لا تخصّ المصريين وحدهم، وتعاطيهم مع الشأن السعودي وتعليقاتهم عليه، وتعليقات نُخَبِهم الكاشفة، إنما تشير هذه الـ"نا" إلى تيّار ديمقراطي، واحد في انحيازه للحرّيات وللتحديث، ومتعدّد في مشاربه وخلفياته الفكرية والأيديولوجية، وهو تيّار لا يملك (الآن على الأقل) سوى "الكلام"، وتعيّره اللجان الإلكترونية، أو "التيوس المستعارة" كما أسمّيها، بأن وجوده قاصرٌ في مواقع التواصل الاجتماعي، وبأنه غير مؤثّر في الواقع. والحقّ أن وجود هذا التيّار في مواقع التواصل من دون غيرها من مواقع التأثير هو منفذه الوحيد للتأثير (هنا والآن)، ولذلك تخشاه الأنظمة وتطلق عليه تيوسها، تتبعه، وتنطحُه. ولذلك أيضاً، ليس لدى هذا التيّار رفاهية إهدار فرصة مواقع التواصل مثل غيرها من هدر السنين.
تشهد السعودية ما تسمّيه تحديثاً في وجوه مختلفة، ومن البديهي أن يستدعي ذلك نقاشاتٍ عربية بشأنه، ومن المتوقّع والإيجابي أن تحتفي هذه النقاشات بما يستحقّ الاحتفاء، وهو موجود، وفي الوقت نفسه، تضع خطوطاً حمراء، افتراضيةً بطبيعة الحال، على ما لا يستحقّ، وقد اختارت الإدارة السعودية نفسها أن يكون ما لا يستحقّ في الواجهة، وأن يكون عنوان المشروع هو "كاميلا كابيلو وجينيفر لوبيز وكريستيانو رونالدو وأولاد رزق". لم يختر أحد هذه الواجهة، ولم يختزل أحد السعودية فيها، بطريقة اختزال شخصية الخليجي "أبو كرش" في أفلام الثمانينيّات، استسهالاً وإجحافاً. هذه المرّة تفعلها السعودية بنفسها، ويتكفّل بها تركي آل الشيخ ورفاقه، من دون آخرين، ويبرزونها، ويدفعون بها ولها، قد يكون ذلك مدهشاً، لكن الأكثر إدهاشاً أن يمثّل اختزال مفاهيم الحرّيات والتحديث في بعدها الترفيهي الاستهلاكي، من دون غيره، قيمة لدى مثقّفين ليبراليين مصريين وعرب، وأن يدافعوا عن ذلك، من دون تعمّد مغازلة النظام في السعودية (في ما أظن)، بوصفه "المطلوب"، و"اللي غيران منهم يعمل زيّهم"!
تتجاوز خطابات ليبراليين مصريين الاحتفاء بتوقيف العقل السعودي عند حدود الترفيه وقيادة المرأة السيارة ومشاهدة الدون وبنزيما (وبارك الله في ما رزق)، إلى التهكّم، وأحيانا الصراخ في وجه أيّ نقاش جادّ بشّأن مدارات التحديث السياسية والاجتماعية، والمبادرة باتهام أصحابها بأنهم إسلاميون، أو مراكيب الإسلاميين. وعلى طريقة شاشات الأنظمة الاستبدادية ولجانها، يتحوّل كلّ خصم إلى "إخواني" بالضرورة، ومن ثمّ يسهُل اغتياله، أو بالأحرى يحقّ لـ"نا" قمعه. تتجاوز "نا" الأخيرة مواقع السلطة إلى من يعتبرون أنفسهم خصومها. وفي تقديري، هذا هو المعنى من وراء هزيمة سرديات التحديث والحرّيات. أن تكون سردية الأنظمة الاستبدادية وخطاباتها هي الأصل الذي ينطلق منه معارضوها، الليبراليون جدّاً جدّاً.