لم تكن هناك مصالحة
مع إعلان السلطة الفلسطينية استئناف التنسيق الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي، ومن دون مقابل فعلي من دولة الاحتلال أو الإدارة الأميركية، جرى الحديث أن الضحية الأولى لهذه العودة ستكون عملية المصالحة الفلسطينية، والتي يمكن القول إنها شهدت خلال الشهور الماضية، شكلياً على الأقل، خطواتٍ غير مسبوقة، كان هدفها محاولة مواجهة الهجمة على القضية الفلسطينية، سواء عبر الخطة الأميركية المسمّاة "صفقة القرن"، أو التوجه الإسرائيلي إلى ضم أجزاء من الضفة الغربية، أو القطار التطبيعي الذي تقوده دول عربية، ويصب مباشرة في تصفية القضية الفلسطينية.
قد تكون فعلاً المصالحة ضحية القرار الذي اتخذته السلطة الفلسطينية، والذي لا تفسير حقيقيا له سوى السعي إلى استعادة أموال الضرائب لدفع رواتب الموظفين وإرسال رسالة مبكرة إلى الإدارة الأميركية بـ"حسن نوايا" السلطة تجاه إسرائيل. تصريحات عديدة ظهرت بعد القرار من حركة حماس، وغيرها من الفصائل، توحي فعلياً بأن عجلة المصالحة ستتوقف في الفترة المقبلة. لكن السؤال الذي يجب أن يطرح هنا يتمحور حول مدى الجدّية التي كانت تسير بها جهود المصالحة، وما إذا كانت الخطوات التي اتخذت، أو على الأقل اللقاءات التي عقدت، كانت ستؤدي فعلياً إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من التفكير للإجابة، خصوصاً بالنسبة لمتابعي محاولات إنهاء الانقسام والممتدة منذ عام 2007، فكل ما حدث خلال الأشهر الماضية، والذي بدا أنه يصبّ في خانة تحقيق المصالحة الفلسطينية، وكل ما قيل في هذا الإطار بعد اجتماعات عديدة، كان يوحي بأن هناك تعويماً للقضية، خصوصاً حين يجري الحديث عن اتفاقاتٍ من دون الإشارة إلى أي تفاصيل حولها. هذا ما حدث أخيراً في الاجتماع الذي عقد في القاهرة بين "فتح" و"حماس". فالإعلان الأولي بعده جاء مشابهاً، إلى حد كبير، للبيانات التي صدرت سابقاً بعد اجتماعات عقدت أخيراً، على غرار اجتماع إسطنبول. بعد اجتماع القاهرة، خرج بيان (لم ينشره موقع "حماس" الرسمي)، يعلن عن تفاهمات حول عددٍ من النقاط الخلافية، إلا أنه لم يذكر تفاصيلها. وأصدرت الحركتان بياناً مقتضباً حمل صياغة دبلوماسية تبقي الباب مفتوحاً لاستئناف الحوارات لاحقاً، إذ لم يتم التطرق لطبيعة الملفات التي جرى التباحث فيها.
مثل هذه البيانات والإعلانات يمكن إسقاطها على كل اللقاءات التي جرت في الفترة الماضية، وهدفت إلى إنهاء الانقسام، بداية من اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية، في سبتمبر/ أيلول الماضي، إذ إن هذا الاجتماع وضع عناوين عديدة كبيرة لتحقيق هدف المصالحة وإصلاح منظمة التحرير، وحدد لذلك سقوفاً زمنية لا تتجاوز خمسة أسابيع، لكن أياً منها لم يتحقق، ويبدو أنه لن يتحقق، أو لم يكن مقدّراً له أن يتحقق منذ البداية.
اليوم، وبعد القرار الأخير للسلطة، يمكن استنتاج أن المصالحة، كالعادة، لم تكن خياراً حقيقياً، بل ورقة مساومة، تلجأ إليها السلطة في فترات التعثر التفاوضي. إذ عمدت السلطة إلى تحريك ملف المصالحة في فترات كانت تشهد فيها العملية التفاوضية جموداً، أو تعنتاً إسرائيلياً، ودائماً ما كان ينتهي هذا التحريك إلى لا شيء. ويبدو أن الأمر نفسه جرى حالياً، على الرغم من أن التقديرات كانت تقول عكس ذلك، في ظل التطورات غير المسبوقة التي شهدتها القضية الفلسطينية مع رئاسة ترامب. لكن قد تكون الأمور اختلفت اليوم بالنسبة إلى السلطة مع ترقب وصول بايدن إلى البيت الأبيض، فالأولوية بالنسبة لها جسّ نبض الإدارة الأميركية الجديدة، وليبقَ ملف المصالحة خياراً جانبياً.