لمّا صنعوا "ثورة اليمن"
لا يتعلّق العنوان أعلاه بثورة "11 فبراير" التي أسقط فيها شعب اليمن في العام 2011 الرئيس علي عبد الله صالح، ولا بثورة "14 أكتوبر" التي اندلعت في جنوب اليمن العام 1963 ضد الإحتلال البريطاني، ولا بثورة "26 سبتمبر" التي أنهت في 1962 حكم الإمامة، وأقامت النظام الجمهوري، وفي ذكراها قبل أيام، استدعاها يمنيون كثيرون بفائضٍ من الحنين، وبشعورٍ بالفقد، وهم ينظرون في بلدهم الذي صارت الدولة فيه، الجمهورية التي بشّرت بها تلك الثورة، حُطاما. ومما كتبه مثقفون وإعلاميون يمنيون، غيارى على شعبهم، في المناسبة هذه، أن الثورة التي نقلت بلدهم من زمنٍ إلى زمن لم تحظ بعملٍ سينمائيٍّ عنها، وأنه فيلم مصري، وحيد، اعتنى بها، هو المقصود في العنوان أعلاه، ذلك أنه حمَل اسما مباشرا مدرسيا، "ثورة اليمن"، أنتج في 1966، لمّا كانت ثورةٌ مضادّةٌ شرسةٌ تواجِه ثورة "26 سبتمبر"، في غضون حربٍ أهلية، استمرّت ثماني سنوات، بين أنصار الملكية الإمامية الذين ساندتهم العربية السعودية (وغيرها) وأنصار الجمهورية الجديدة الذين ساندتهم مصر بوجود نحو 70 ألف جندي مصري معهم، عدا عن الدعم الإعلامي الكبير، وغناء نجاة الصغيرة وفايدة كامل للثورة الطالعة هناك.
ليس من بِنياتٍ تٌعين اليمنيين على إنجاز فيلمٍ سينمائيٍّ عن الثورة التي قامت قبل 58 عاما في بلدهم الذي غالَب تخلّفا في إمكاناته وفرص نهوضه عقودا. أما السبب الذي يجعل السينما المصرية تلتفت إلى "26 سبتمبر" فهو الوعي العام الذي كان متسيّدا في زمن جمال عبد الناصر عن دورٍ "طليعيٍّ" للآداب والفنون، في نصرة ثورات التحرّر ومقاومة الرجعية والإستعمار. وإذا كانت أفلامٌ عديدةٌ في صدد مصر نفسها عبّرت عن مضامين هذا الخصوص، فإنهما ربما فيلمان سينمائيان مصريان التفتا إلى قضايا شعوبٍ عربيةٍ في هذا المجرى، في ذلك الزمن: "جميلة" من إخراج يوسف شاهين في 1958، عن المناضلة الجزائرية ضد الإستعمار الفرنسي، جميلة بوحيرد. وقد أدّت ماجدة فيه دور البطولة (مع رشدي أباظة وأحمد مظهر ومحمود المليجي). و"ثورة اليمن" من إخراج عاطف سالم (قصة صالح مرسي، وبطولة ماجدة وصلاح منصور وحسن يوسف وعماد حمدي وصلاح قابيل)، والذي لم يُحرز المكانة التي حازها "جميلة" لدى الجمهور والنقاد وفي ذاكرة السينما المصرية، ما قد يعود إلى جودتِه الأفضل (بالمناسبة، لم يُعجب جميلة بوحيرد نفسها)، وإلى الموضوع الجزائري ذاته، وأيضا إلى التعتيم (أو الإخفاء) الكبير الذي مورس على "ثورة اليمن" في زمن أنور السادات، لاقترانه بسياق الناصرية التي جاءت الساداتية انقلابا معلنا عليها.
شوهد "ثورة اليمن" بُعيْد إنتاجه كثيرا، سيما وأن اليمنيين فرحوا به في تلك الستينيات (وربما ما زالوا؟)، ولأن نجوما أدّوا الأدوار الرئيسة فيه، غير أن هذا وذاك ليسا سببيْن للإحتفاء به، ذلك أن فائضا من السطحية والسذاجة فيه يجعلانه فيلما ضعيفا، لفرط الدّعائية الظاهرة فيه، عندما (مثلا) لا يكتفي بالحقيقة المؤكّدة عن شناعة الإمام أحمد حميد الدين، حاكم اليمن حتى أيامٍ قبل اندلاع ثورة 26 سبتمبر، وإنما يزيد على الرجل شناعات السّفه والشهوانية والحُمق والدموية بكيفياتٍ كاريكاتيريةٍ تتوسّل الإضحاك. وإلى هذا الأمر، لم يفلح صنّاع الفيلم في إقناع مشاهديه بالوقائع التي تتابعت فيه، عندما توسّل قصة شابٍّ يمنيٍّ يعود إلى بلده، وقد درس الهندسة في القاهرة (يتكلم العامية المصرية كما كل من في الفيلم!)، ويستهدفه الإمام الحاكم، بقتل أهله ونهب قبيلته. وإذا كانت مشاهد الجموع في شوارع تعز وميادينها، وكذا في أزقّة صنعاء القديمة، قد أسعفت الفيلم بمشهديةٍ على قدرٍ من الفنّية المتقنة، إلا أن هذه لم تُنقذه من "البروباغاندية" التي غلبت عليه، سيما مع انعدام المنطقية في تفاصيل كثيرة، إلى الحدّ الذي دفع بعضهم إلى القول إن "ثورة اليمن" سقطةٌ في تاريخ السينما المصرية (ما أكثر سقطاتها إذن!). وعندما تنتصر الثورة، وعماد حمدي في دور عبد الله السلّال على ظهر دبابةٍ تمشي الهوينى في الشارع، كما صلاح قابيل وتوفيق رشوان على أخريتين، تٌسمع، مع صوت القذائف على قصر الإمام، أغنيةٌ عن ثورة يمنية طردت الرجعية.. عندما يحدُث ذلك، فإنك لا تكون قدّام فيلم سينما. وهذا يعود بنا إلى السياسة عندما تفعلها وتقتل الفن. .. ولا صلة لهذا كله بثورة 26 سبتمبر اليمنية أبدا.