لمّا زُرْنا البصرَة
كنّا نحو مائة كاتب وشاعر وناقد وروائي وقاصّ وإعلامي عربي (وبعض الأجانب)، من بين ضيوف مهرجان المربد الشعري في العراق (وليس كلّهم)، نقلتْنا طائرةٌ عراقيةٌ صباحا من بغداد إلى البصرة، ثم أعادتنا مساءً، قبل 34 عاما (نوفمبر/ تشرين الثاني 1988). هبطت بنا في مطار البصرة، واستقبلتْنا فيه أهازيج عراقيين وعراقيّاتٍ فرحين بنا (أو هكذا توهّمْنا)، ثم أخذتْنا حافلتان إلى موقع عسكريٍّ ناءٍ في الفاو، شبه الجزيرة التي كان الجيش العراقي، قبل شهورٍ من مشوارنا ذاك، قد حرّرها من احتلالٍ إيراني استمرّ نحو عامين. وأفيد لاحقا بأن هذا الإنجاز العسكري العراقي (وغيره) من أسبابٍ اضطرّت الخميني لأن يقبل وقف إطلاق النار، صيف ذلك العام. لا أتذكّر أن عيوننا شاهدَت، في نحو ثلاث ساعات، معالم خاصّة، أو عمائر عالية، أو حتى ناسا كثيرين، وإنما قرى صغيرة، وبيوتا متفرّقة، ومساحاتٍ واسعةً من خلاء، وصورا للخميني عليها آثار طلقات رصاص، وصورا لصدّام حسين على ألواحٍ صدئة، ومتروكة في القفار. وتوسّل بعضُنا شيئا من النوم، بإغفاءة ما أمكن، دفعا لضجرٍ لم تقدر عليه ثرثراتُنا مع بعضنا بعضا. لا أنسى صمت محمد زفزاف ومحمد شكري، وكانا معا في الكرسي الأخير.
لمّا وصلنا إلى الموقع العسكري، حيث الأتربة وأكياس الرمل وسواتر ومخبأ تحت الأرض لجنودٍ خرج بعضُهم ليروْنا، وزملاء لهم في حراسة المكان، شبّان سُمر الوجوه غالبا، تستشعر فيها أثرا ظاهرا للشمس الكثيرة هناك. تحدّث إلينا ضابطٌ مفوّه، باسمٌ، شرح عن معركة تحرير الفاو، وكنّا إلى جانب لوحةٍ كبيرةٍ منصوبةٍ، سوداء، انكتبت عليها بعض تفاصيل المعركة. أدردش مع بعض أصحابي في الرحلة، صديقي العتيق طلعت شناعة، وعبد اللطيف عقل، وأنظر إلى شاكر نوري يترجم للروائي الفرنسي ألن روب غرييه ما نسمَع. أُعْطينا ساندويشاتٍ من الجُبن الأحمر، لم نستطْعمها، وأُخبِرنا بأن غداءً في انتظارنا في العودة. وبالفعل، في طريقنا قافلين، توقّفنا في معسكرٍ، أدخلونا إلى قاعةٍ فسيحة، وتناولْنا غداءً ممتازا، بديعا، شهيّا، متنوّعا، متقنا (تضمّن بصلا محشوّا بالرز)، لا أظنّني سأنسى روعتَه ولذاذَته، ولا دماثة الضبّاط والجنود الباهظة، وهم يقومون بضيافتنا. ثم أخذونا إلى مساحةٍ مظلّلةٍ بخيمةٍ واسعةٍ في الجوار، لنستمع إلى كلماتٍ وخطبٍ عن البطولة والفداء والشهادة وصدّام حسين. انتبذْنا، طلعت ولامع الحر وأنا، مطرَحا بعيدا بعض الشيء، لندردش، فحدّثنا لامع عن تجربته أسيرا في معتقل الخيام.
أعادتنا الحافلات، من ثمّ، إلى البصرة، وكان الغروب يقترب. جالت بنا، وأمكن لي أن أرى بعضا من مدينةٍ متعبَة، منهَكة، مباني مضروبة، شوارع متربة. ثمّة شحوبٌ ظاهر، ولا معالم تبقى في الذهن وتستوقف العيون. كثيرون ممن رأيتُ تسعفهم العكاكيز على المشي، لفقدانهم أطرافهم اليسرى أو اليمنى. سألتُ من سألت، فحدّثني عن قصفٍ إيراني يومي كانت تتعرّض له البصرة في سنوات الحرب الثماني. أحاول، وأنا أرمي كلمات هذه المقالة على شاشة الحاسوب، أن أستدعي مشهدا أو أتذكّر شيئا لافتا، فلا أفلح، إلا إذا كان نقصان الفرح، أو وفرة البؤس، أو بعض الفقر، يستحقّ أن يكون علائم في البصرة التي رأيت. لم أر شَعَرَ البصرة الذي سأل نزار نفسَه كيف يمشّطه بالكلمات. جال في خاطري سؤالٌ عن النحاة البصريين، أين يقيمون، وكانوا أصحاب مدرسةٍ في مقابل النحاة الكوفيين. ضحكتُ من بلاهةٍ سأكون عليها لو فعلت. جاء إليّ أن أسأل عن مطرح الخليل الفراهيدي، بحّار العروض العربية، أو عن منزل السيّاب هنا، وأظنّنا مررْنا بتمثاله، قبل أن نصل إلى قاعةٍ سمعنا فيها شعرا متواضعا، لنتّجه بعدَه إلى المطار. جاء إلى بال العشرينيّ الذي كنتُه أن الخليج قبل أن تتنازعه التسميتان، العربي والفارسي، كان اسمُه خليج البصرة. وجاء، أيضا، أن غسّان جعل "أبو قيس" يلاقى ضحاياه الثلاثة في "رجال في الشمس" هنا في البصرة، ما أوحى بأنها مدينة المهرّبين في زمن البحث عن الرزق في الكويت وجوارِها. ولا توحي احتجاجاتُ ناسها وانتفاضاتهم منذ سنواتٍ بغير الحقيقة الماثلة، إنهم أفقر العراقيين، فيما مدينتُهم، بأنهرها ومينائها الذي تقول الحكاية إن سندباد بدأ منه ارتحالاتِه، كانت مؤهلةً لتكون من أغنى مدن العالم وأجملها وأكثرها ازدهارا. ولكنه الفساد العظيم والاستبداد الطويل تحالفا ضد كل العراق، ضد البصرة التي يفرح أهلوها، في هذه الأيام، باستضافتها لاعبي كأس الخليج لكرة القدم، لعلّهم الآن في سرورٍ لم نُصادفه فيهم لمّا زرناهم، نحن الذين قد يقول قائل عنا إننا كنا زوّار نظام صدّام، وهذا ليس صحيحا، ولكن لا بأس، لكلٍّ أن يقول ما يقول.