لماذا لم يَسقط القرآن؟

لماذا لم يَسقط القرآن؟

20 ابريل 2021

(حسين ماضي)

+ الخط -

يعود المسلمون كل عام في شهر رمضان المبارك إلى الاستجابة للدعوة الإلهية في تأمل الكتاب المقدس في الإسلام، القرآن الكريم. ومع تفاقم الأزمات الكبرى في حاضر العالم الإسلامي، وخصوصا في الوطن العربي، موطن البلاغ القرآني، تزداد أهمية هذه المراجعة، لفهم أسرار الوصف الدقيق لبدء الحياة الإنسانية على المعمورة، ورحلة البشر الأولى، وأصول الاستدلال المركزي للرؤية الكونية المتميزة للإسلام.
وتعتبر هذه الحقبة من حياة المسلمين اليوم من أشرس ما يعانونه في فهم علاقتهم بالإسلام، وفي حياتهم المدنية، حيث لا يمكن أن تستقر حياة الأفراد والأسر والمجتمعات، من دون أن تكون على قاعدة أمن اجتماعي وطمأنينة في المعيشة والحياة. ولذلك، ما يعانيه حاضر العالم الإسلامي اليوم متعدّد الاستقطاب في تأثير هذه الأوضاع عليه، وإن كان هذا العالم الإسلامي قد مر بتجربة عسيرة جداً في العهود الأخيرة للدولة العثمانية، وكذلك في مواجهة الغزو التتري الهمجي. غير أن ذلك الهجوم التتري الشرس لم يستطع أن يقتلع الفكرة الإسلامية والعهد القرآني من المسلمين. والعجيب أن الأمة التترية بدأت، منذ ذلك الحين، بالتحول إلى الإسلام، حيث وجدت فيه سؤال الروح والأخلاق الذي يُهذّب ذلك التوحش في النفس، كما هذّب جاهلية العرب، واعتنقت الشعوب التترية الإسلام، وهي جزء مهم من الأنثروبولوجيا التي شكلت أمم الأناضول بين السلاجقة والتتر والقبائل الحليفة.

هناك خلط واسع لا نستطيع أن نفرزه اليوم بين مسؤولية الهيكل الإداري للدولة وثقافة الحكم العثماني وبين مشروع الغرب الذي تدخل باسم الأقليات

والحديث هنا، من حيث الفكرة الإيمانية ومعناها الحضاري، ودلالتها الفلسفية التي يعتني بها الباحثون لفهم رحلة الدين في حياة الشعوب، وليس من خلال الوقوف عند حالات الصراع السياسي، خصوصا أن كل منعطفات الصراع والتخلف والاشتباكات المتعددة، وانحطاط رؤية النظر الفقهية في تاريخ المسلمين، مرتبط، في الحقيقة، بانحراف هذه الرؤية عن مقاصد الإسلام الكبرى. أما ما واجهه حاضر العالم الإسلامي عند سقوط الدولة العثمانية فله ارتباط بالواقع الذي خلفته عهود الانحطاط والضعف الذي مزج بين إشكالية الاستبداد وضعف المنظومة الإدارية للدولة، بسبب مركزية السلطة وتفجر إشكالات الصراع القومي المتعدد، وغياب هياكل الاستيعاب السياسي الفيدرالي وغيره. وقد تزامن ذلك مع قوة ممثلي الدول الأوروبية، وتدخلهم في الحياة السياسية في الأستانة، ومن ثم الأقاليم العربية وغيرها.
وهناك خلط واسع لا نستطيع أن نفرزه اليوم بين مسؤولية الهيكل الإداري للدولة وثقافة الحكم العثماني وبين مشروع الغرب الذي تدخل باسم الأقليات، مستثمراً الغياب القانوني والسياسي الذي كان من الممكن أن يُحدّث في الدولة العثمانية، ويُنظم علاقتها مع العرب ومع بقية القوميات، وهو المشروع الفيدرالي الذي حاول الإصلاحيون العرب وغيرهم إقناع الأستانة به، من دون جدوى، فانهار مسرح حاضر العالم الإسلامي في ذلك التاريخ، وكان يتزامن مع حملة فكرية قوية، نفذها الكيان الموازي للحملات الغربية منذ قرنين وأكثر، عبر الخطابية الأكاديمية، ومركزها الاستشراقي. وقد ركّزت هذه الحملة الضخمة، من ضمن خطتها، على غزو فكري حقيقي لإسقاط القرآن، عبر حملة تشكيك واسعة في القرآن الكريم، تحوي خليطاً متعدّداً من المزاعم، وبأن القرآن كُتب عبر مجموع ما وصل إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وبسبب طموحاته كعربي مصلح اجتماعي.

من خصوصية القرآن أنه يثبت التسلسل التاريخي للنبوات والشرائع

ومن السهولة بمكان للباحث المحقق، بل القارئ الذي يتتبع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ويقف أمام آيات القرآن ومفرداته، وتاريخ النبوات، وواقع العرب الجاهلي وثقافتهم، أن يقطع بسقوط هذا الزعم بغض النظر عن دينه، فتاريخ الحياة البشرية في القرآن، وتاريخ النبوات وحشد الأحداث، والخطاب الإلهي وطبيعته، والنص القرآني المعجز المُستَشعَر في المقارنة مع أي نص ديني آخر، يُبطل هذا الاستدلال المزيف كليا. هذا فضلاً عن أن تلك الحملة على القرآن كانت في سياق غزو كولونيالي، العمق الثقافي فيه كان يستبق آلة الإبادة وسلاح المستعمر.
ومن خصوصية القرآن أنه يثبت التسلسل التاريخي للنبوات والشرائع، ويُقدّمها في سرد تاريخي محكم، وينقل صورة الصراع بين الأنبياء ومعاديهم. ويلاحظ هنا أن كل تلك النماذج العدائية للنبوات تجسّدت في شخصيات ظالمة دموية مستبدة كفرعون، أفحشت في حق الأبرياء، وأبادت شعوباً من الأمم من اليهود والمسيحيين وغيرهما.

القرآن، بوصفه بيانا إلهيا للناس، يُفصح عن أن وحدة الرسالات متفقة مع وحدة الكتب التي نُسخ بعض أحكامها

هذا المركز الأخلاقي في توصيف الظلم في التاريخ الإنساني دلالة مهمة لهذا التسلسل والانسجام الذي يقدّمه القرآن في الوحدة الموضوعية المتماسكة لما يُقرّره الكتاب العزيز في دلالة تاريخية وفكرية، فالقرآن الكريم هو الكتاب المقدّس اليوم الذي يوثّق نزول الكتب السماوية التي تغطي مراحل النبوات. ويقدّم تفسيراً واضحاً وجلياً في كيف أن هذه الكتب، التوراة والإنجيل والزبور والصحف الأخرى، موثقة في القرآن الكريم، لكنه يُبيّن للناس، كل الناس، قضية التحريف التي طرأت على تاريخ التدوين، في حين يتبيّن القرآن، في حجته الظاهرة، ما بين دفتي الكتاب العزيز، كبلاغ ثابت للناس، لا يمكن أن يتطابق مع باقي الكتب السماوية بنصها الحالي. من دون أن يُسقط القرآن شرعية هذه الكتب في أصلها، ومن دون أن يكون ذلك مدعاةً للمواجهة مع معتنقيها، وإنما القرآن، بوصفه بيانا إلهيا للناس، يُفصح عن أن وحدة الرسالات متفقة مع وحدة الكتب التي نُسخ بعض أحكامها في دلالةٍ على اختلاف التطورات البشرية، والتي يراعيها الإسلام في تاريخ الأمم والأرض، وأن الجامع الذي تمثّله كليات القرآن الكريم متفقة تماماً مع كليات الكتب المقدسة، فهو تحرير لمعنى الوحدة في تاريخ النبوات في إطار علمي واضح وتصالحي، يدعو إلى كلمة سواء، تُنقذ عبرها البشرية برسالة العدالة السماوية.
وهنا يستبين الفرق بين مركز الفكرة وإدانة التحريف الذي خلط رسالة السماء وصراعات المجتمعات المعادية في تدافعهم مع النبوة، أو من اختلق مساراً دينياً خرافياً يسيء للنبوة والخالق، وليس من خلال توجيه ذلك الوصف صراعا مع أتباع الديانات الذي ينظم العلاقة معهم قرآن المقام، لا قرآن المآل.