لماذا قتلوا شيرين؟

13 مايو 2022
+ الخط -

تطلّعتُ إلى الوجه البشوش والعينين الواثقتين بلا استعلاء، وتساءلتُ كم من الشهداء رأتا، وما زالتا تحملان الأمل طريّاً ولامعاً؟ كم من الدّماء والأشلاء والصّواريخ والرّصاص والدبابات والجنود، قابلت شيرين ولا تزال تبتسم؟ كم من العيون تعلقت ببسمتها التي تشرق خلف ضباب الأجواء المشحونة دوما بعدوان الجيش الصهيوني؟ كم رأت شيرين ولم تغادر نحو بلدانٍ أخرى آمنة، ولو بعد حين، هي التي أدّت ديْنها للقضية والوطن، وقد آن لها الأوان لأن تعيش قليلا في مكانٍ آمن، من القصف والخوف؟ كنت أتأمل شيرين كلما ظهرت على الشاشة، وأفكّر فيما سبق، وأعجب مثل غيري بشجاعتها الفريدة في زمنٍ جبان.
صحيحٌ أن الصحافة مهنة، لكنّها ليست مثل أيّ المهن الأخرى، فهي لا تقلّ حساسيةً عن الطب، لأن الصحافي يكشف الحقائق مثل ما يكشف الطبيب على مرضاه، ويُريهم دخائل أجسادهم، ويوجّه الضوء إلى عمق الأحداث باحثاً عن العلّة والعلاج. لا يجب أن تحمل الصفات المهنية والتكوين والتدريب الكافي لتكون صحافياً، بل يجب أن تحمل ضميراً صاحياً ومعايير أخلاقية صارمة، تمنعك من الانزلاق في عملك نحو الهوى والمال والصيت الكاذب، فكم من صحافيٍّ جعل مهنة الصحافة عارا وتهمةً، وأعاد صياغة الحقائق في شكل دعايةٍ أو تحريف أو تلفيق .. بحيث تصبح غاية الصحافي توسيع باب الرزق وخدمة من يدفع أعلى، بدل خدمة الحقيقة واحترام الرأي العام.
لم تكن شيرين، وكم هو مؤسفٌ أن نستخدم صيغة الماضي لوصف صحافيةٍ قدّمت إلى عشرات الملايين الحقيقة من فوّهة البركان. لم تكن صحافية تحمل مهمّتها على محمل الجدّ وتستميت في ذلك فحسب، بل فاقت الصحافي المهني في إيمانها بقضية فلسطين، إيمان المناضل الحقيقي والجندي الحامي، فأصبحت رمزا لكليهما.
ما الذي ضايق إسرائيل لتغتال شيرين؟ إنه كل ما سبق؛ فالدولة المعتدية المحتلة لن تقبل وجود رمز يتحدّى جبروتها بالكلمات، الكلمات التي هي أقوى من الرصاص، وأكثر عمقا وحدّة عندما تحمل الحقيقة طازجةً من فم النار، وهي تفتح أبوابها في وجه الفلسطينيين العزّل إلّا من الحق في الحياة والحق في الوطن. .. الكيان الإسرائيلي محتل مستبدٌّ، لهذا ضايقته شيرين، وهي تتقدّم بوجهها الهادئ لتلقي الضوء على الناس والأرض، وهم تحت النار، على مدار نحو خمس وعشرين سنة. وكلما ظهر رمزٌ جديدٌ للمقاومة حاولت إسرائيل محوه.
ما من شيءٍ قد يبرّد نار رؤيتها تُغتال أمام الكاميرات نفسها التي كانت تنقل ضحايا آخرين. لكن لعل اغتيال شيرين حدث يزلزل الواقع المائل إلى التطبيع مع كيان قاتل ومجرم، يمارس الإبادة الجماعية لشعبٍ كامل لم يستسلم لحظة رغم التقتيل والحصار. لعل هذه الجريمة تجرّ الكيان الصهيوني إلى الهاوية التي يحفرها بيديه، أمام شعبٍ جبار يحفر تحت الأرض أنفاقا نحو الحرية إذا ما أُغلقت الطرق فوقها.
كان يمكن لشيرين أن تنسحب وأن تترك الضوء بأيد أخرى جديدة، لكنها كانت تعيش في المكان الوحيد الذي أرادت أن تكون فيه، فهي لم تترك البلاد التي لم يحبّها أحد مثل ما أحبّتها شيرين، مع كتلة واسعة من أبناء القضية الفلسطينية الشجعان، الذين يصنعون الحدث تلو الآخر، ويتحدّون جيش الاحتلال أمام أنظار العالم، الذي اضطر إلى الانتباه إلى وضعية الشعب الفلسطيني، بطل القرن وضحية الإبادة الجماعية الأطول في العصر الحديث.
لم تعش شيرين سوى خمسين سنة، لكنها حقّقت في هذه السنين ما لم يحققه آلاف. ظلت واقفة بينما انحنى كثيرون. في عمق الحزن، نغبطها على شجاعتها وعلى حياتها الحافلة، وعلى الأثر الذي تركته على حيوات الملايين ممن تابعوها وكبروا على صوتها ووجهها، هي التي كانت مثالا للاستقرار والثبات. إذ ذهبت سنواتٌ وجاءت أخرى، وهي تمسك الميكروفون بجرأة وشجاعة نادرتين.
نغبط شيرين على الحبّ والتقدير اللذيْن انهمرا على اسمها وهو ينتقل من الحركة إلى السكون، لكنه سكون النجوم في عليائها ولمعانها وخلودها.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج