لماذا جنوب أفريقيا عربية أكثر من العرب؟
لا نفتري على الدول العربية ولا نرميها بما ليس فيها حين نقول إن جنوب أفريقيا أكثر عروبة منها، إذا أقررْنا بأن قضية فلسطين مقياس حقيقي للهوية ومعاني الانتماء الحضاري والأخلاقي.
هذا التشارك في الهوية الواحدة والانتماء الواحد ثابتٌ بحقائق التاريخ والجغرافيا والثقافة عند الشعوب العربية التي تتفاعل مع مجريات العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزّة، انطلاقًا من أن القضية قضيتهم، والجرح جرحهمن والدم النازف هو دم هذه الجماهير المكبّلة بالعجز والقمع.
في ذلك تأتي النتائج الباهرة لاستطلاع الرأي الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وأعلنت نتائجه الأربعاء الماضي، 10 يناير/ كانون الثاني 2024، والتي أظهرت أنّ المواطنين العرب يتعاملون مع هذه الحرب على أنها تمسّهم مباشرة؛ إذ عبّر 97% من المستجيبين عن أنهم يشعرون بضغط نفسي (بدرجاتٍ متفاوتة) نتيجة للحرب على غزّة؛ بل إن 85% قالوا إنهم يشعرون بضغط نفسي كبير.
وبحسب الاستطلاع، يرفض 89% من العرب أن تعترف بلدانهم بإسرائيل، مقابل 4% فقط يوافقون على ذلك، مع الإشارة شديدة الدلالة إلى أن نسبة الذين يعارضون الاعتراف بإسرائيل في الرأي العام السعودي ارتفعت، من 38% في 2022 إلى 68%، وكذلك الأمر في السودان من 72% في 2022 إلى 81%، وفي المغرب من 67% في 2022 إلى 78%.
تعكس هذه الأرقام حالة حقيقية وصادقة من الالتفاف الشعبي العربي حول فلسطين وغزّة، تتجلّى في هذه الشعبية الجارفة التي تمتلكها دولة جنوب أفريقيا الآن في الوجدان الجمعي الذي يعتبرها عربيةً أكثر من الأنظمة العربية ذاتها.
وبعيدًا عن المشاعر والوجدانيات، يؤكّد واقع الحال أن الحكومات العربية تخلت عن الواجبات القومية والأخلاقية تجاه الشعب الفلسطيني، وأخلّت بالتزاماتها وقراراتها المنصوص عليها والمعلنة على الرأي العام. وهنا يحضر البند الثامن من قرارات القمة العربية الإسلامية التي انعقدت بالرياض 11/11/2023 حيث تجد هذا النص: "الطلب من المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية استكمال التحقيق في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في جميع الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، وتكليف الأمانتين العامتين في المنظمّة والجامعة بمتابعة تنفيذ ذلك، وإنشاء وحدتي رصد قانونيتين متخصّصتين لتوثيق الجرائم الإسرائيلية المرتكبة في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وإعداد مرافعات قانونية حول جميع انتهاكات القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني التي ترتكبها إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وباقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، على أن تقدّم الوحدتان تقريريهما بعد 15 يوما من إنشائهما لعرضهما على مجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية وعلى مجلس وزراء خارجية المنظمّة، وبعد ذلك بشكل شهري".
هكذا قرّر العرب والتزموا بعد مؤتمر قمّة حاشد حضروه جميعاً، ودعوا إليه الدول الإسلامية الكبرى، وقالوا للناس إنهم مؤتمرون انتصاراً لفلسطين وتصدّيّاً للعدوان الصهيوني الهمجي، فهل فعلوا شيئاً، أو اجترحوا قولاً ينتصر لفلسطين ويردع الكيان الصهيوني؟
لم يحدُث شيء من ذلك، فيما مضت جنوب أفريقيا تخوض معركة فلسطين وحدها، أمام محكمة العدل الدولية، تماماً كما فعلت قبل عام مضى، حين تصدّت ببسالة، ومعها الجزائر ودول أفريقية أخرى، في إحباط عملية انضمام الكيان الصهيوني للاتحاد الأفريقي بصفة مراقب، بينما اختارت دولٌ عربيةٌ التصويت لصالح إسرائيل، وسكتت دولٌ عربيةُ أخرى.
في معركة لاهاي التي تابعها الشعب العربي على مدار الأيام الفائتة، أثبتت جنوب أفريقيا ودول أخرى في القارّة السوداء أنها أكثر قربى لفلسطين من شقيقاتها، وخصوصًا الكبرى التي تتشبث بعلاقتها الدافئة بالصهيوني، لكنها لا تمانع في الاكتفاء بالفرجة من بعيد على الصدام الجنوب أفريقي - الإسرائيلي في المحكمة.
حتى حين جاءت الفرصة لتتدارك مصر تخلفها عن المعركة القانونية الأهم، عقب مرافعة المحامي الصهيوني التي ادّعى فيها أن مصر تتحكّم في فتح معبر رفح وغلقه، لم تبادر القاهرة بالدخول طرفًا في القضية الأساس، ولم تشغل نفسها سوى بنفي علاقتها بالسيطرة على المعبر، وكأنها ليست معنيةً بالموضوع الأصلي، وهو التصدّي لجريمة الإبادة الجماعية التي تنفذها إسرائيل.
كان المتصوّر أن تحضر الشقيقة الكبرى في الملحق بعد أن تعمّدت الغياب عن الامتحان الأصلي، غير أنها اكتفت بإرسال أوراق الإجابة بالبريد، لتسجّل رسوبها المدوّي في الملحق، كما سقطت في الامتحان الأخلاقي الأول.