لماذا تنظيم كأس العالم في قطر مثير للجدل؟
الإجابة السهلة عن السؤال الذي يحمله عنوان هذا المقال أن المونديال هذا العام يُنظم لأول مرة فوق أرض عربية إسلامية، وفي دولة صغيرة تضع احترام ثقافتها المختلفة في اختبار كبير أمام باقي شعوب الأرض الذين سيحجّون إليها لتشجيع فرقهم. والجواب الثاني أن قطر لم تحترم حقوق العمّال الذين شيّدوا، في ظرف قياسي، ملاعب كرة القدم التي تحتضن منافسات المونديال، بل ومنهم من فقد حياته في ظروف عمل قاسية، وصفتها تقارير منظماتٍ دوليةٍ بأنها أقرب إلى العبودية. والجواب الثالث يأتي من المدافعين عن البيئة الذين يرون في تبريد ملاعب ضخمة في مناخ صحراوي كارثة بيئية ستزيد من تفاقم التغيرات المناخية على سطح الأرض. والجواب الرابع هو التشكيك في نزاهة عملية القرعة التي جرت قبل 12 سنة، ومنحت قطر فرصة تنظيم أكبر منافسة كروية عالمية، مع التذكير بأن من كانت تنافسها في تلك القرعة هي الولايات المتحدة الأميركية العظمى! كل هذه الإجابات متداولة وتتكرّر عند كل منتقدي تنظيم المونديال في قطر. ويمكن أن تضاف إليها إجابات سهلة وجاهزة كثيرة، لكنها تبقى غير مقنعة مقارنة مع حجم الجدل الذي أثارته هذه الدورة أكثر من سابقاتها، ودعوات المقاطعة التي كانت تريد إفشال هذا الحدث الكروي العالمي قُبيل انطلاق فعالياته.
الجديد في هذه الانتقادات حدّتها وتوقيتها، لأنه كانت معروفة، أو بالأحرى كانت أسبابها معروفة منذ تقرّر منح قطر تنظيم أكبر حدث كروي في العالم. كان هذا الجدل سيصير صحياً ومنطقياً لو تعلق الأمر فعلاً بالدفاع عن قيم ومبادئ كونية لم يجر احترامها في هذه الدورة، أو لو تعلق الأمر بالتنديد بسجل قطر في مجال احترام حقوق العمالة التي تستقدمها من دول عدة، أو لو أثيرت القضايا التي تثار اليوم للدعوة إلى مقاطعة المونديال، مثل الحرص على البيئة، وعدم نزاهة التصويت الذي منح قطر حق تنظيم هذه المنافسة، لأن كل هذه الأسباب التي يثيرها أصحابها اليوم يفترض أنها كانت موجودة منذ عقد، بل وكانت معروفة ومكشوفة، وكان من السهل تصحيح الوضع، لو أنه فعلاً كان يحتاج إلى تصحيح، قبل عشر سنوات، وليس عشية انطلاق فعاليات أكبر حدث كروي يشهده العالم كل أربع سنوات.
أبرزت الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا مدى فداحة ازدواجية المعايير التي يستعملها الغرب لفرض رؤيته لبعض المفاهيم والقيم على بقية الشعوب
لذلك من المنطقي، كذلك، التساؤل لماذا لم يجر اكتشاف أن قطر ليست هي الدولة التي تستحقّ شرف تنظيم مثل هذا العرس الكروي قبل عشر سنوات؟! لم يسبق أن تلقّت دولة ما في السابق سيلاً من الدعاية السيئة قبل استضافتها كأس العالم كما حصل مع قطر، ألم يصمت العالم قبل نحو أربع سنوات عند تنظيم المنافسة العالمية في روسيا، المعروفة تاريخياً بسجلها الأسود في مجال حقوق الإنسان، وعُومل نظامها بالمعاملة التفضيلية المعتادة في مثل هذه الأحداث الكبرى التي ترتبط فيها الرياضة بالتأثير السياسي. ألم يكن نظام فلاديمير بوتين، الذي يحاول النظام الغربي اليوم شيطنته، هو نفسه راعى فعاليات مونديال روسيا التي كانت في الوقت الذي تجري فيه المباريات فوق أراضيها تحتل أراضي في دولة جارة هي أوكرانيا، وكانت تقمع بقوة المنشقّين عن نظامها وتبيدهم بالسمّ الزعاف!
لقد أبرزت الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا مدى فداحة ازدواجية المعايير التي يستعملها الغرب لفرض رؤيته لبعض المفاهيم والقيم على بقية الشعوب، وبالتالي لم تعد الدروس الغربية تعتبر ذات مصداقية. وليس غريباً أن مجمل الانتقادات لبطولة كأس العالم المقامة في قطر تأتي من دول غربية، وحتى لو اتفقنا أو اختلفنا مع كل الأسباب التي تثير هذا الجدل الذي ما زال يتفاعل، إلا أن ما يجعله مثيراً للنفاق ازدواجية المعايير التي ترافقه، حتى تحوّل من انتقادات، رغم صوابية بعضها، إلى معارك أيديولوجية لا علاقة لها بالرياضة، ولن يجري إخمادها بسهولة، وربما قد تستمر حتى ما بعد انتهاء فعاليات البطولة الحالية.
الرياضة والسياسة تتداخلان وتتقاطعان، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بأشهر لعبة شعبية في العالم
وحتى القول إن دورة المونديال هذا العام سُيّست أكثر من اللازم يبقى حُكماً غير دقيق، لأن كل الدورات السابقة شهدت حضور السياسة بشكلٍ متفاوت من دورة إلى أخرى، بل كانت الأحداث الرياضية العالمية الكبرى في أحيانٍ كثيرة فرصة للدفاع عن قضايا سياسية، فالرياضة والسياسة تتداخلان وتتقاطعان، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بأشهر لعبة شعبية في العالم. وعلاقة كرة القدم، بالضبط، بالسياسة قديمة، فالكرة المستديرة كانت دائماً رهينة الحكام المستبدّين والمتعطّشين للسلطة، وللرجال الأثرياء الجشعين، وللقادة غير الأكفاء الطامحين إلى الرفع من منسوب شعبيتهم وسط جماهير يخدّرها سحر المستديرة. لذلك ستنتهي دورة قطر وسيستمر الجدل، فالكرة بطبيعتها مستديرة، وكلما استدارت حرّكت معها المشاعر وأثارت الجدل والنقاشات.