لماذا تتخذ الكويت موقفاً حازماً من التطبيع؟
بدأت نبرة التطبيع مع إسرائيل ترتفع، خصوصاً مع دخول دول الخليج في هذا النادي، بغض النظر عن المبرّرات المستخدمة من كل الأطراف، كالاقتصاد والسياحة والرياضة .. إلخ، إلا أن حقل السياسة لا يهتم كثيراً بهذا النوع من المحدّدات. ولذلك، لا يمكن التعامل مع التطبيع إلا وفق مفهوم السياسة القائم على فكرة التمييز بين الصديق والعدو.
أجدني أمام معضلة حقيقية في تفسير هذا الموقف المتخاذل من القضية الفلسطينية، إذ أزعم أنها أهم قضية عربية في تاريخنا الحديث والمعاصر، فلا يمكن تجاوزها تحت شعارات متهافتة قائمة على المنفعة الاقتصادية وتنشيط المجال السياحي أو تطوير العلاقات العسكرية مع إسرائيل. ومن الملاحظ أن هناك محاولة لعمل حالة اندماج ثقافي صهيوني عربي على مستوى التاريخ والفن والموسيقى، في محاولة لإقحام الشعوب بشكل مباشر في هذه المسألة بالإكراه، بحجّة طاعة النظام السياسي. وعلى الرغم من أن ما يحصل قريب من الكويت، وهي دولة تتأثر بطبيعة الحال، ولا يمكنها أن تؤثر في محيطها كما الحال في خمسينيات القرن الماضي، ما يعود إلى ظروف لا يسعفنا ذكرها، إلا أن الموقف الرسمي للدولة لا يزال ملتزما بالحق الفلسطيني، كما أن هناك تصورا عاما عند السلطة السياسية أن التعامل مع إسرائيل يعتبر من الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها.
هناك تصورا عاما عند السلطة السياسية في الكويت أن التعامل مع إسرائيل من الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها
الكويت هي الديمقراطية المنفردة في الخليج، وان كانت تجربة متواضعة وتراجعت كثيراً، إلا أن هناك مساحة للعمل في الحيز العام عبر الأحزاب السياسية، جمعيات النفع العام، الصحف وجماعات ضغط .. إلخ، كما أن دور المثقفين لا يزال بارزاً في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا حيزٌ استطاعت من خلاله التيارات الرئيسية في الساحة السياسية الكويتية (الليبراليون والإسلاميون) تعبئة الشارع باتجاه القضية الفلسطينية، على الرغم من محدودية حضورهم في البرلمان، خصوصاً مع صعود قوى قبلية غير مؤدلجة ومستقلين كثيرين، إلا أن هذه التيارات لا تزال مسيطرة على المجال العام في النقاش الفكري، بل يبدو أن القضية الفلسطينية هي المسألة الوحيدة التي يمكن أن يتفق فيها اليمين مع اليسار. ولذلك تعي السلطة السياسية جيداً أن التطبيع مع دولة الاحتلال عبء سياسي لا يريد أحد أن يدفع تكلفته الشعبية، وهذا المبرّر كافٍ لكي يتم رفضه، حتى لو كانت هناك ضغوط خارجية من دول في المنطقة أو من الولايات المتحدة.
هناك مساحة للعمل في الحيز العام عبر الأحزاب السياسية، جمعيات النفع العام، الصحف وجماعات ضغط
من زاوية أخرى، خرجت أصوات تبرّر التطبيع مع إسرائيل، على الرغم من تصدّر إسلاميين من السلف المشهد، بحجة طاعة ولي الأمر، إلا أن هناك أصواتاً ليبرالية، هامشية جداً، تحاول أن تبرّر التطبيع بحجة الواقعية والسلام وشعارات على طريقة "إلى متى هذا الدم؟". فيما الحقيقة أن سلوك دولة إسرائيل يتناقض مع الليبرالية. ولو افترضنا جدلاً أن جوهر الليبرالية يتبلور حول "حرية التعبير" و"حرية التملك" و"دولة الحد الأدنى"، فإن إسرائيل تمنع الشعب الفلسطيني من إبداء رأيه في المجال العام، خصوصاَ في ما يتعلق بانتهاكاتها المستمرّة عبر استخدام العنف المفرط، كما أنها سلبت حقّ التملك من الفرد الفلسطيني منذ حرب 1948، عبر سياسات الاستيطان وهدم بيوت منتسبين للمقاومة الفلسطينية. كما أن مواثيق حقوق الإنسان الأممية تؤكد حق الشعب في تحرير وطنه من الاستعمار. من هنا، تتطابق المفاهيم الليبرالية مع المسألة الفلسطينية. ولذلك من المستحيل أن تكون ليبرالياً وفي الوقت نفسه ليس لديك موقف واضح من دعم القضية الفلسطينية، بوصفها قضية سياسية تمثل قيمة "الحرية".
سلوك بعض الدول يعطي مؤشّراً إلى أنها مسألة وقت لا أكثر، وتتجه إلى إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل
إلى ذلك، هناك علاقة بين فكرة الطموح السياسي في الإقليم ومحاولة التحالف مع إسرائيل، بوصف الأخيرة قوة إقليمية مؤثرة. ولكن الكويت لا تحاول أن تدخل في صراعات إقليمية بغرض بناء نفوذ سياسي، بل دورها، وهي دولة صغيرة، يحتم عليها التعامل مع الصراعات بطريقةٍ غير ملفتة للنظر، خصوصاً أن هذا النوع من الصراعات يقحمها في نزاعاتٍ قد تمتد داخلياً، مثلما حصل في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. وتدرك السلطة السياسية خطورة هذا الأمر. بل يبدو دور الكويت، منذ سنوات، توافقياً. ولا يفترض الكاتب هنا أن هذا الأمر جيدٌ بالمطلق، ولكن طبيعة النظام السياسي القائم على توازناتٍ بين قوى مختلفة، وصغر حجم البلد في إقليم ملتهب بالضرورة، عوامل تنشئ بعداً استراتيجياً قائماً على المهادنة، حتى مع وجود خطر إيراني واضح المعالم، إلا أن إسرائيل ليست تلك الدولة التي يجب أن نتعامل معها من أجل حماية أنفسنا، والدليل أن لدى إيران طموحاً قديماً جداً في المنطقة، حتى ما قبل ثورة 1979، ولكن تم إيجاد حالة من التوازن عبر علاقات مع دول كبرى، مثل مصر في الستينيات، ثم مع الولايات المتحدة. وسوف تستطيع الكويت، في هذا النوع من العلاقات والمصالح المشتركة، أن تحمي نفسها من أي نزاع قادم في المنطقة. وأكاد أجزم أن إسرائيل تتمنى دمار الدول العربية، لأنها تعرف أن التحول الديمقراطي في الوطن العربي يعني بداية عودة الصراع العربي الإسرائيلي بشكل مباشر، لأن من الواضح أن أغلبية العرب (يرجى مراجعة المؤشّر العربي الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) يعتقدون أن إسرائيل خطر دائم.
التوافق العام في الكويت بين السلطة والشعب حول قضية فلسطين يجعل حالة التطبيع بعيدة جداً
ما يحصل حالياً تراجع خطير جداً، لكنه لم يكن مستبعداً، لأن سلوك بعض الدول يعطي مؤشّراً إلى أنها مسألة وقت لا أكثر، وتتجه إلى إقامة علاقات كاملة مع إسرائيل. ومع ذلك كله، سوف تبقى القضية الفلسطينية موضوعاً مركزياً في النقاش العام في الكويت، على الأقل بين النخب السياسية المؤثرة. وهذا ما يجعل دخول الكويت في نادي التطبيع بعيداً، أقله في المرحلة الحالية. والمتمنى أن تستمر في موقفها العروبي من القضية الفلسطينية، خصوصاً أن الأمير الراحل، الشيخ صباح الأحمد الصباح، رحمه الله، كان أحد المدافعين عن القضية الفلسطينية، بل يمكن القول إنه ظل أحد العناصر المهمة في تشكيل رأي إقليمي داعم للقضية الفلسطينية في المنطقة. وذلك التوافق العام في الكويت بين السلطة والشعب حول قضية فلسطين يجعل حالة التطبيع بعيدة جداً، ولو طبّعت كل الدول العربية، فإن الكويت لن تكون آخر دولة تطبع، بل سوف تكون الدولة الوحيدة غير المطبعة مع إسرائيل.