لماذا انسحب بوتين من خيرسون؟
لم يكن قرار روسيا انسحابها من مدينة خيرسون في أوكرانيا متوقّعاً، حتى في ظل الانكسارات التي مُنيت بها خلال شهور الحرب الماضية. فمن الناحية الاستراتيجية، لا يمكن تخيّل استغناء بوتين عنها، لما تحملُه من أهمية حيوية، فهي الممرّ البري الوحيد والمصب المائي لشبه جزيرة القرم، وحلقة وصل لسواحل البحر الأسود مع أوديسا. من ناحية أخرى، خيرسون من المدن الأربع التي شملها الاستفتاء في 30 سبتمبر/ أيلول الماضي، وأصبحت بموجبه أراضي روسية خالصة، تطبَّق عليها القوانين الروسية، وكذا العقيدة الروسية في استخدام كلّ الإمكانات للدفاع عنها، بما فيها القدرات النووية التكتيكية. مع ذلك، فوجئ بعضهم بقرار وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، تنفيذ قرار انسحاب قواته من الضفة الجنوبية لنهر دنيبر إلى الجهة اليسرى، مستنداً إلى توصية من قائد العمليات الجديد، سيرغي سيروفيكين، الذي ادّعى، عبر وسائل الإعلام الروسية، ضرورة حماية القوات الروسية بعد تقديره أنَّ بقاءها في الضفة الجنوبية لم يعد مجدياً، بعد صعوبة وصول الإمدادات إليها. هكذا، وبشكلٍ مخالفٍ للتفكير الروسي، يُروَّج للانسحاب ويُعطى صبغة شرعية، وكأنَّهم يقولون للعالم إنّنا خسرنا معركة خيرسون، وسننسحب منها ونتركها لأوكرانيا.
من الناحية الشكليّة، يُمثل قرار التخلّي عن خيرسون نكسة أخرى، تُضاف إلى سجل نكسات بوتين في أوكرانيا منذ تاريخ الحرب، 24 فبراير/ شباط الماضي، كذلك يعدّ تحوّلاً في مسار الصراع ومنعطفاً جديداً سيكون له ما بعده. من الناحية العملية، يبدو الأمر مختلفاً، هذه المرّة، عن كلّ مراحل الصراع. فالتكتيك والأسلوب الروسيان المتّبعان حالياً في خيرسون يختلفان تماماً عمّا قامت به في العاصمة كييف وخاركيف، فالانسحاب هناك كان اضطرارياً، أما في خيرسون فقد جاء كيفياً، وهو ما دعا الجانب الأوكراني إلى التشكيك في الرواية الروسية، ووصفها "بالفخّ"، أو احتمالية تدبير لخديعة جديدة. فالرئيس زيلينسكي لم يعد يثق بنيّات بوتين، وقال إنّ موسكو لا تقدّم إلى بلاده هدايا أو شيئاً بالمجان. من هنا، جاءت التساؤلات والتحليلات عن خطوة بوتين في خيرسون، ولا سيما أنّ التوقيت ترك إشارات استفهامٍ ما زالت قيد البحث.
رغم حقيقة دخول روسيا في استنزاف عسكري واقتصادي، فإنّها غير مضطرّة إلى أن تنفذ انسحاباً بشكل معلن
توجد عدة دوافع واحتمالات، ربما كان أحدها سبباً لإقدام روسيا على هذا الإجراء. الأول: أنّ بوتين أدرك فعلاً استحالة تحقيق نصر كامل في خيرسون، بعدما حقّق الجنود الأوكرانيون نجاحاتٍ كبيرة منذ شنّهم هجوماً مضادّاً في الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول)، واستردادهم 14 منطقة شماليّ خيرسون، مستفيدين من كل القدرات والدعم الغربي من صواريخ ومنظومات "هيمارس"، وهو الأمر الذي قاد، في نهاية المطاف، إلى إعلان الرئيس الأوكراني إنشاء أربع مناطق عسكرية تتسلم مهمة الدفاع واسترداد خيرسون. من هنا، بدا لبعضهم أنّ روسيا أعادت تقييم وضع العمليات العسكرية، وقررت الانسحاب لتجنب خسائر عسكرية جديدة في العتاد والقوات، فهي لا تريد تكرار ما حدث في خاركيف والعاصمة كييف. بالتالي، قرّرت فعلاً حماية القوات وتأمينها لاستخدامها في ما بعد بمعارك هجومية. مع ذلك، يبدو هذا الاحتمال غير واقعي. فرغم حقيقة دخول روسيا في استنزاف عسكري واقتصادي، فإنّها غير مضطرّة إلى أن تنفذ انسحاباً بشكل معلن، وإعطاء زمام المبادرة لأوكرانيا للتغنّي بنصر جديد، ذلك أنّ روسيا عودتنا، في حالات الانكسار، اللجوء إلى رواية التكذيب والتقليل من الخسائر أو التكّتم عليها.
الاحتمال الثاني مفاده أنّ روسيا، عبر قائد عمليات قواتها الجديد، سيرغي سيروفيكين، تريد أن تُغيّر من تكتيكها القديم إلى آخر جديد متعلّق بتنفيذ خطط عسكرية تعتمد على المكر ونصب الكمائن للعدو، بهدف التقليل من خسائرها، ورفع احتمالية تحقيق المكاسب من جهة أخرى. من هنا، يكون سحب القوات إلى يسار نهر دنيبر أشبه بمسرحيةٍ مفضوحة، يُترَك فيها الميدان لدخول القوات الأوكرانية بهدف الإطباق عليها بهجوم روسي. هذا الاحتمال أيضاً غير وارد، فعدا عن أنه بدائي في العمليات العسكرية، هو أيضاً سيناريو فاشل، فاليد الطولى في خيرسون هي لأوكرانيا، وهي تقرأ من كثب كلّ تفصيل صغير يحدث على الأرض، بالتعاون مع الخبراء والضباط الغربيين.
المهم الآن أنّ حالة تغيير حدثت في الولايات المتحدة، جاءت على أعتاب صعود الجمهوريين، الرافضين دعم أوكرانيا إلى الأبد
يبقى الاحتمال الثالث، وهو الأقرب والأكثر واقعية، يتمحور حول رغبة بوتين في أخذ الأنفاس وإعطاء فرصة لعودة المفاوضات مع أوكرانيا، والسبب هو التحوّل في الموقف الغربي الداعم لأوكرانيا. وقد تداولت، أواخر الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) مصادر وصحف غربية قصة المحادثات السرّية بين الجانبين، الأميركي والروسي، قيل حينها إنّ قنواتٍ خلفية ما زالت تتواصل مع الروس، لحثهم على وقف الحرب، وعدم استخدام السلاح النووي. وفي 5 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، نشرت صحيفة واشنطن بوست كواليس ضغوط أميركية مورست من الرئيس بايدن على الرئيس زيلينسكي، لإقناعه بالتفاوض مع الروس، وقد جاءت هذه الضغوط لكسر قناعة أوكرانيا بأنّ الغرب سيستمر في دعمها حتى دحر آخر جندي روسي من بلاده، كذلك جاءت لإزالة الفيتو من عدم التفاوض مع بوتين، بموجب قرارٍ وقعه الرئيس الأوكراني في وقت سابق. في الوقت نفسه، جاءت الضغوط لتحجيم الشروط الأوكرانية وتمييعها لعودة أوكرانيا إلى التفاوض، حيث حدّدت الأخيرة شروطاً باتت مبالغاً فيها من الولايات المتحدة، في انسحاب كل القوات الروسية من كامل الأراضي الأوكرانية، ودفع تعويضاتٍ ماليةٍ عن خسائر الحرب وتدمير المدن، وبند المحاكمة للجنود الروس والقادة، وحتى الرئيس بوتين.
قد تختفي كلّ هذه الشروط في الأيام المقبلة أو تخفَّض إلى الحدود الدنيا، في سبيل العودة إلى طاولة المفاوضات. المهم الآن أنّ حالة تغيير حدثت في الولايات المتحدة، جاءت على أعتاب صعود الجمهوريين، الرافضين دعم أوكرانيا إلى الأبد، وغير راضين أن تكون هذه الحرب طويلة، بالتالي، تحوّل المحدّد الأميركي من دعم أوكراني لتحقيق نصر كامل إلى دعم مشروط ينتهي بموقف أوكراني قوي على طاولة المفاوضات. ما يعزّز هذا الكلام تطابق عدة مصادر عن وجود لوبي ضاغط داخل الولايات المتحدة محسوب على الجمهوريين، باتوا يُمارسون أقصى أنواع الضغط على الديمقراطيين، بخصوص حرب أوكرانيا، كذلك لا يخفى على كثيرين معارضة بعض دول أوروبا حرباً طويلة الأمد، فالخسائر باتت كبيرة، وبرد الشتاء قادم بشكلٍ قد يُجمد معه اقتصاديات بعض الدول، ويضعها في ميزان الخسائر والتآكل الداخلي.
خطوة انسحاب القوات الروسية من خيرسون بمثابة جسّ نبض وتجسير لقنوات التواصل مع أوكرانيا
من هنا، ربما اختار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إفساح المجال وإعطاء الفرصة لعودة المفاوضات، وجاء قول المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، واضحاً، قبل أيام، عن رغبة بلادها في عودة التفاوض مع أوكرانيا. بالتالي، جاءت خطوة انسحاب القوات الروسية من خيرسون بمثابة جسّ نبض وتجسير لقنوات التواصل مع أوكرانيا، في انتظار نتائج هذه الفرصة، هذا بالإضافة إلى محاولة بوتين الاستفادة من عوامل الوقت، فهو يعلم جيداً أنّ العمليات العسكرية ستدخل في مرحلة جمود بعد أسابيع مع حلول الثلوج في أوروبا. وعليه، يكون الانسحاب فرصة له أيضاً في إعادة رصّ صفوف قواته، وتدريب قوات التعبئة الجديدة، كذلك ترقّب مصير التحولات في الداخل الأميركي وحجمها بعد نتائج الانتخابات.
على هذا المنوال، يكون الانسحاب من خيرسون من أشكال "استراحة محارب"، وليس عجزاً عسكرياً عن حماية المناطق التي يُسيطر عليها، ولا سيما أنّها تُشرف على تأمين الطريق البرّي للقرم التي تعد الخط الأحمر الأول بالنسبة إلى بوتين، فكيف يقبل اليوم التخلي عنها وإعلانه أمام العالم فشله في صدّ هجوم أوكرانيا المضاد.
أخيراً: مهما كانت الظروف التي دفعت بوتين إلى تنفيذ خطوة الانسحاب من خيرسون، المؤكد أنّ ذلك مؤقتٌ في انتظار روسيٍ لحدوث أمرٍ ما، لكن الثابت أنّ بوتين ما دام على رأس السلطة، فلن يتخلى عن خيرسون التي ضمّها رسمياً إلى الاتحاد الروسي، وهذا ما يفسّر قول بوتين: "إنّ انسحابنا من خيرسون لا يعني أبداً التخلي عنها، فهي ستبقى ضمن الأراضي الروسية".