لماذا انتخابات السنغال مهمّة؟
يترقب الملايين في العالم نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، التي تجري في نهاية العام، وتدلّ مؤشّرات على انحصار المنافسة فيها بين الرئيس الحالي جو بايدن وسلفه دونالد ترامب. وإلى هذا الحدث المهم، ستجري في العام الجاري عدّة انتخاباتٍ ساخنةٍ في عدّة دول، ابتداءً من الهند، التي يسعى رئيس وزرائها الحالي ناريندرا مودي وحزبه القومي الهندوسي للحصول على فترة ثالثة، مروراً بدول آسيوية وأفريقية أخرى ونهاية بالبرلمان الأوروبي، الذي نتوقع أن تشهد انتخاباته تقدّماً غير مسبوق للأحزاب اليمينية.
السنغال من الدول التي ستكون نتائج عمليتها الانتخابية في الشهر المقبل (فبراير/ شباط) مهمّة. لفهم تعقيدات الوضع في ذلك البلد، الذي يقع في أقصى الغرب الأفريقي، واستقلّ عن فرنسا في 1960 وتناوب عليه أربعة رؤساء، يمكن العودة إلى أحداث منتصف العام الماضي (2023)، حينما شهدت البلاد موجة تظاهراتٍ كبيرة في أعقاب توجيه تهمة "إفساد الشباب" للسياسي البارز عثمان سونكو الذي اكتسب مكانة وشعبية لدى أوساط سنغالية مختلفة، وبات يُعرف زعيماً للمعارضة، وكان قد اتهم في البداية بالاغتصاب، قبل أن يقتصر الأمر على جريمة "الإفساد"، التي تشمل التحرّش والتحريض على الرذيلة.
لم يتقبل المتظاهرون، وأغلبهم من المناصرين الشباب، أن سونكو، الذي كان قد اتهم أيضاً بقذف أحد المسؤولين، قد يواجه عقوبة السجن عاميْن، وأنه قد يستبعد من المنافسة الرئاسية. بالنسبة لهؤلاء، الذين أظهروا غضبهم وإحباطهم من خلال مواجهات عنيفة وأعمال شغب أسفرت عن أعدادٍ من الضحايا، فقد كانت المحكمة مسيّسة، ولا تهدف إلا لمنع سونكو من الترشّح للانتخابات.
كان يُنظر إلى السنغال على الدوام واحة ديمقراطية ضمن إقليم مضطرب تغلب عليه الانقلابات. تعزّزت هذه الصورة اليوم أكثر، فعلى امتداد حزام الساحل الكبير، من البحر الأحمر شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً، تكاد السنغال تكون الدولة الوحيدة ذات النظام الديمقراطي المستقرّ. والمفارقة مع ذلك تكمن في موجات العنف السياسي، التي تعرّضت إليها البلاد مرّات عبر تاريخها، وجديدها أخيرا الأحداث الدامية إثر إعلان توقيف سونكو، حين تعرّضت العاصمة داكار ومدن أخرى لتخريب كبير وحالة غير مسبوقة من الفوضى. وكانت تلك الأحداث تدقّ ناقوس الخطر بشأن وجود احتقانات اجتماعية تنتظر فرصة للتعبير عن نفسها.
حكومة مغايرة بقيادة أشخاص مثل عثمان سونكو قد تقود إلى توسيع الحلف المعادي لمصالح فرنسا في المنطقة
ليس موقع السنغال مميّزاً فقط لكونها ديمقراطية مستقرّة، ولكن لأنها، مع تشاد في شرق حزام الساحل، تمثل آخر ما تبقى للغرب ولفرنسا من حلفاء استراتيجيين ضمن هذه البقعة، فبعد خروج الجنود الفرنسيين من النيجر، أخيرا، وتجميد الاتفاقات التاريخية الثنائية مع دول في قلب أفريقيا كمالي وبوركينا فاسو، باتت أهمية مستقبل السنغال لا تقتصر على شعبها.
صبّ ما أشيع عن عزم الرئيس الحالي ماكي سال على الترشّح لدورة ثالثة مزيدا من الزيت على نار أحداث العنف آنذاك، فقد حظيت فكرة التمديد الاستثنائي، التي طرحها أنصاره، برفض شعبي. الحملة الشعبية، التي كانت تعتمد على التذكير بأن سال نفسه كان من المناضلين لأجل أن تقتصر حقبة الرئيس السابق عبد الله واد على فترتيْن، وأجريت تعديلاتٌ دستوريةٌ بناء على هذا، نجحت في دفع سال إلى الإعلان عن أنه لن يخوض الانتخابات، وأنه سيكتفي بفترته الثانية.
وأبرزت قضية سونكو أسئلة كثيرة بشأن الممارسة الديمقراطية في السنغال، وما إذا كان كل ما يحدُث للمعارض الأبرز مجرّد ظلم وتصفية للحسابات السياسية بواسطة القضاء، وخصوصا أن تهمة الاستغلال الجنسي، التي تقدح في أخلاقية الزعيم الصاعد، كانت تستند إلى ادّعاء بلا دليل لفتاة كانت تحكي عن واقعة حدثت قبل عامين من تقديم شكواها. بالنسبة للمتحمّسين لسونكو والمقتنعين بنظرية المؤامرة لم يكن إبراز الدليل مهمّاً، فهم يؤمنون بأنه، وحين تكون في صراع مع الدولة، فإن بإمكان الأخيرة تزوير الأدلة واللعب بكل الوقائع. طرحت تطوّرات قضية سونكو، التي شملت الإفراج عنه، ثم استبعاده لاحقاً من خوض الانتخابات لأسباب فنية، أسئلة أخرى بشأن الدور الخارجي الممكن. من المهم التذكير هنا بأن سونكو يتبنّى خطاباً مقارباً للخطابات الثورية الأفريقية، التي تهدف إلى إعادة ترتيب العلاقة مع الغرب، وخصوصا مع فرنسا، وجعلها تعتمد على الندّية بدلاً من التبعية السياسية. كان هذا الخطاب من أهم أسباب ازدياد شعبية سونكو، ففي السنغال، كما في غيرها من دول أفريقية، هناك ملايين من المقتنعين بأن سبب أوضاعهم الاقتصادية الصعبة وما يعانونه من قلة الفرص والإمكانات هو الاستعمار المتلوّن الحديث.
الرغبة الشعبية ظاهرة في دعم تيار التغيير الجذري، عبر سونكو أو أي من أنصار أفكاره
لا تعلن فرنسا، التي تمتدح الديمقراطية السنغالية بشكل لا يخلو من مبالغة، عن أي دور لها، لكن باستحضار العلاقة التي تربط ماكي سال بباريس، وبالرئيس إيمانويل ماكرون، الذي عرض عليه أن يكون مبعوثاً خاصاً للسلام عقب انتهاء ولايته، يصعُب تخيّل لامبالاتها، فحكومة مغايرة بقيادة أشخاص مثل عثمان سونكو قد تقود إلى توسيع الحلف المعادي لمصالحها في المنطقة.
المرشّحون للانتخابات المقبلة كثر، لكن المنافسة الحقيقية ستكون بين المرشّح، الذي يمكن أن يكون امتداداً للدولة الكلاسيكية المقرّبة من فرنسا والآخر الذي يتبنّي خطاب سونكو، الذي يهدف إلى إعادة التفكير في أسس دولة ما بعد الاستعمار.
مع الرغبة الشعبية الظاهرة في دعم تيار التغيير الجذري، عبر سونكو أو أيٍّ من أنصار أفكاره، يصبح التساؤل عن مدى شفافية الانتخابات وردود الفعل الشعبية المحتملة إزاء أي إحساسٍ بالتلاعب او بسرقة الأصوات وارداً. يدفع ذلك كله إلى القلق حول مستقبل البلاد، فهل يمكن أن تتحوّل الانتخابات المقبلة من وسيلة للازدهار إلى بوّابة للفوضى؟