لماذا الثأر من الرموز العبّاسية في العراق؟
لن يهدأ بال النظام السياسي العراقي الحالي إلا بتدمير معالم العراق الحضارية المرتبطة بتاريخه الزاهر، نظراً إلى ارتباط النظام بنهج الغلو والثارات الذي تقوده إيران مع حقد أسود على رموز العراق، وذاكرته التاريخية منذ أكثر من ألف سنة مضت. لقد منعت قوات الأمن محاولة عصاباتٍ في تدمير نصب مؤسّس بغداد، الخليفة أبو جعفر المنصور، في كرخ بغداد. وهي عصاباتٌ مجهولةٌ مسلحّة بالفؤوس والمطارق، جاءت لهدم النصب الذي كان صمّمه الفنان خالد الرحال، والنصب رأس برونزي يقف على قاعدة عليا. كان استفزازاً غير مبرّر أثار عواطف العراقيين والعرب. بعد أيام، خرج علينا أحد شيوخ الشيعة الإيرانيين، مهدّداً بدعوتهِ إلى تدمير جامع الإمام أبي حنيفة النعمان ومرقده في الأعظمية ببغداد، واصفاً إياه بأبشع الصفات. وهذه نائبة أخرى في سلسلة إثارة فتن كبرى، ذلك أنّ أتباع مذهب أبو حنيفة هم الأغلبية في العالم الإسلامي.
بدأت هذه "المحاولات" منذ احتلال العراق 2003، إذ دمّرت عدة نصب مثلّت رموز العراق في التاريخ، ومنها تمثال المنصور نفسه وغيرها، وقد أعيد إصلاحه، وغدت ساحات النصب مأوى للنفايات والقاذورات. هكذا، ستبقى الهجمة مستمرّة ضدّ كلّ الرموز، حتى تدميرها بالكامل، وسيزداد العراق انقساماً اجتماعياً وتاريخياً، إذ كان منقسماً منذ أكثر من ألف سنة، ويصل الغلو المذهبي والطائفي إلى أقصى مراحله في أزمنة، ثم يخمد في أخرى. وهو السبب الحقيقي الذي جعل العراقيين غير منسجمين أبداً في ما بينهم، كونهم غير موّحدين في الرؤية إلى تاريخهم ورموزه، والتاريخ عند أغلبهم قد تحّول إلى "عقيدة" يغالون فيها كثيراً على حساب العقائد الأخرى.
هزم أبو جعفر المنصور العلويين الذين اتهموا المنصور بدسّه السم لجعفر الصادق فمات، ولم يُثبت أحدٌ صحة هذه التهمة
لم يكن المنصور ولا غيره من الحكام والخلفاء، ملائكة، فأغلبهم مارس القوّة أو القسوة، واجتهد في حكمه، بعد أن لاقى عنتاً من جماعاتٍ وانتفضت عليه أخرى، ولكن لا يمكن أبداً الثأر ضدّهم بعد مئات السنين، أو وصفهم بالمجرمين (كذا)، بعيداً عن ذكر المنجزات الحضارية التي كان لها تأثيراتها في العالم كلّه. ولا يمكن لأيّة طائفةٍ قيّض لها حكم البلاد أن تمارس غلوّاً وتعصبّاً ضدّ الطرف الآخر وإقصاءه ومحو رموزه وتجاهل منجزاته وكسر إرادته. ولا يمكن تصدير الغلو الطائفي إلى العالم الإسلامي والعالم كلّه بوسائل استفزازية. وفي مناسباتٍ لا تعني شيئاً بالنسبة للعالم. كما أنّ العراق ليسَ ملكاً أو عقاراً مسجّلاً باسم طرفٍ واحد، كي يتصّرف به على هواه، فهو ملك لكلّ أهله، وعلى العراقيين جميعاً احترام رموز أحدهم الآخر وأماكن عبادتهم وعتباتهم.
يعدّ أبو جعفر المنصور المؤسس الحقيقي للدولة العباسية العظيمة، وعاش بين (714 - 775م)، وحكم بين 136 - 158 هـ (754 - 775م)، وكان من أهم البناة في التاريخ، وسمّي "داهية العرب" أكثر من ربع قرن: أربع سنوات كوالٍ للموصل وإقليم الجزيرة الفراتية و22 عاماً خليفة لإمبراطوريةٍ عظيمةٍ. ومن أعظم منجزاته تأسيس (وبناء) مدينة بغداد المستديرة عاصمة للدولة، وسماها مدينة السلام، فضلا عن دورهِ في إرساء قوّة الدولة، وتعزيز حكم سلالته بعد نجاح الثورة العباسية ضدّ حكم الأمويين، وتحالفَ العلويون معهم، باعتبار أن الطرفين من آل البيت. ونجحوا في القضاء على الأمويين قضاءً مبرماً وإبادتهم عن بكرة أبيهم. وانتصر العباسيون في فرض إرادتهم وأخذ الحكم، فبدأ العداء بينهم وبين العلويين الذين أخرجوهم من ملّة آل البيت، علماً أنّ العباسيين هم أحفاد العباس عم الرسول، في حين كان العلويون أحفاد علي بن أبي طالب. وعليه، الخلافَ سياسيٌ على الحكم بالدرجة الأولى.
تأجّج الخصام ضدّ العباسيين بفعل دور الخراسانيين الإيرانيين، وقتل المنصور أبا مسلم الخراساني الذي كان يحرّض العلويين للاقتصاصِ من العباسيين، فكانت أن ثارت خراسان ضدّهم، والتي أخمدها المنصور في معركة الهاشمية بقوّة، فكثرت التمرّدات في أماكن متعدّدة من إيران ضدّ المنصور وضدّ العباسيين من بعده. ولتوطيد سلطته، أسس المنصور المقر الإمبراطوري الجديد ومدينة القصر مدينة السلام بغداد في قلب الإمبراطورية، وسيكون لها دورها الحضاري في العصور الوسطى، وغدت معقلاً للثقافة والحضارة العربيتين. وكانت مأهولةً بسكان من مختلف الأديان والثقافات قصدوها من كلّ العالم. وبضمنهم الأقليات المسيحية والزرادشتية واليهودية، وتمّ التواصل معهم باللغة العربية، وكثرت مدارسها وجامعاتها، وغدت مدينة عظيمة في العالم. واتبع المنصور سياسة قوية وأمنية في الحفاظ على الدولة من التفكّك مع مؤسساتها، وغدت من أثرى الإمبراطوريات في العالم. كان حكمه سلميًا إلى حدّ كبير، حيث ركّز على الإصلاحات الداخلية والزراعة ورعاية العلوم، فغدت بغداد مركزًا عالميًا للتعلم والمعرفة تحت حكم العباسيين. وكان المنصور نفسه عالما متبّحراً في العلوم واللغات، وشجّع الترجمة، وكتب في علم الفلك والرياضيات والطب والفلسفة، واهتمّ بالسريان، وخصوصا آل بختيشوع من الأطباء. وفي الوقت نفسه، كان غريمه الإمام جعفر الصادق عالما بالرياضيات والفلك أيضا، وقد درس على يديه مخترع علم الجبر، جابر بن حيان.
تأجّج الخصام ضدّ العباسيين بفعل دور الخراسانيين الإيرانيين، وقتل المنصور أبا مسلم الخراساني الذي كان يحرّض العلويين على الاقتصاصِ من العباسيين
عزّز المنصور علاقاته الدبلوماسية مع الصين، وفرض الضرائب على البيزنطيين، وتحالف مع الكارولونجيين في فرنسا. ولمّا مات قرب مكّة، تعمّدوا أن يضيعوا قبره خوفاً من نبشه والعبث بعظامه. عند موته، كانت خزينة الخلافة تحتوي على 600 مليون درهم و14 مليون دينار! قال المنصور، وهو على فراش موته: ضحّينا بالأرواح من أجل مجرد حلم! نصح المنصور نجله المهدي في شؤون الدولة قائلا: "لا تنم، لأن أباك لم ينم منذ قدوم الخلافة. لأنه عندما يحلّ النوم على عينيه، تبقى روحه مستيقظة". وقال أيضا: "من ليس له مال فليس له رجال، ومن ليس له رجال يشاهد أعداءه يكبرون".
لقد وسّع الإيرانيون شقّة الخلاف بين العباسيين والعلويين الذين أرادوا الحكم للإمام جعفر الصادق، كونه من نسل علي. وقد وصل الخلاف إلى حد الثورة التي قمعها المنصور في 762-763م وهزم العلويين الذين اتهموا المنصور بدسّه السم للصادق فمات، ولم يُثبت أحدٌ صحة هذه التهمة! ومنذ ذلك التاريخ، كان المنصور وسلالته محلّ حقد وكراهية من الشيعة عموماً، باستثناء الدروز الذين اعتبروه أحد أئمتهم المقدّسين! وسواء اتفقنا أم اختلفنا في طبيعة حكم المنصور أو في طبيعة وجود مذهب أبو حنيفة النعمان أو غيرهما، فقد كان لأولئك تاريخهم وقوة منجزهم. ولم تزل آثارهم راسخةً في مجتمعاتنا، فليسَ من السهل أبداً أن تفرض إرادتك لمحو رمزيتهم من الذاكرة التاريخية.