للعالم لا للأرجنتين ... ومن لا يحب ميسّي؟
أكتب هذه السطور قبل انطلاق صافرة البداية للمباراة النهائية في كأس العالم في الدوحة، بين فرنسا والأرجنتين، مسكونًا بحلم قديم أن أرى معجزة كرة القدم، ليونيل ميسّي، رفقة مثله الأعلى دييغو أرماندو مارادونا في كتاب الأبطال الأسطوريين.
منجز ميسّي الكروي، رقميًا، يفوق مارادونا والجميع، غير أن كأس العالم تبقى درّة التاج وذروة الحلم، لا لميسّي وللأرجنتين فقط، وإنما أيضا لجماهير العالم العاشقة للجمال والإبداع، في كل مكان، ممن عاشت نحو عشرين عامًا من المتعة والبهجة، هي تقريبًا عمر مسيرة هذا اللاعب الفذ، الذي تحدّى قوانين الطبيعة وكسر حاجز المنطق والتوقعات.
عشنا على أمل انتصار الأرجنتين بقيادة ليونيل ميسّي باعتباره انتصارًا للكفاح وللإتقان وللجودة معًا، وأيضًا هو انتصار رياضي وحضاري لجزء من العالم يشبهنا، ذلك الجزء هو صاحب الفضل على ما يسمّى العالم الذي يسمّي نفسه الأول، كونه منجم الموهبة والإبداع في كل مجالات الوجود الإنسانية، نعم أميركا اللاتينية وأفريقيا هما المنجم الذي زوّد العالم الأول بعبقريات كرة القدم، والشعر والرواية، تمامًا كما سرقوا منه اليورانيوم ومناجم الذهب والألماس، فصنعوا تفوّقهم من خيرنا، ثم راحوا يتطاوسون علينا باعتبارهم العالم الأعلى.
أما مسألة الانحياز لليونيل ميسّي والحلم بفوزه بكأس المونديال فهي كذلك من تلك المباهج التي تشبه النهايات السعيدة لملاحم بطولية وقصص رومانسية، عايشناها وكأننا جزء منها، منذ شاهدنا ذلك الطفل ضئيل الجسم لأول مرة يهبط على كوكب "كامب نو" ملعب فريق برشلونة، بعد انضمامه إلى مدرسة الناشئين في عمر 13 عامًا، بعد أن تغلّب على نقص هرمون النمو الذي حال دون قبوله في أندية الأرجنتين.
ومنذ العام 2004 وحتى ليلة أمس الثامن عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2022 في الدوحة، وجمهور كرة القدم يعيش بهجة استثنائية 18 عامًا مع مبدع من كتاب الأساطير، أخلص لكرة القدم فدانت له، وأعطته كما أعطاها، ومن المفترض أن تكون ليلة أمس ليلة وفاء الكرة لعاشقها الأول.
في هذه الأجواء الأسطورية، لا يخلو الأمر من أصواتٍ كارهة للجمال والإبداع، تتهم ليونيل ميسّي بالانحياز للصهيونية، ودعم الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ماليًا، وتصل الهستيريا منتهاها بوصفه بأنه "صهيوني" ودليلهم إنه لعب في الأراضي الفلسطينية المحتلة مبارياتٍ رفقة برشلونة، ضمن فعالية تابعة لليونيسيف، وزار حائط البراق، كما زار مناطق السلطة الفلسطينية.
شخصيًا، أصابني هم وغم حين رأيت صورته ضمن بعثة برشلونة في زيارة معالم دينية، وتمنّيت لو لم يفعلها، لكن مسألة أنه صهيوني وداعم للاحتلال بالتبرّع، وأنه ارتدى قميصًا يحمل علم الاحتلال، فهذا كله محض اختلاق مجنون، وإصرار على الكذب وترويجه. ويحضرني هنا جهد استقصائي قام به عديد المواقع الصحافية المعتبرة بشأن تلك الصورة الشهيرة، ومن ذلك ما توصلت إليه وكالة الصحافة الفرنسية، حيث انتهت إلى أنه تم العثور عبر البحث على موقع Tineye على صورة مماثلة منشورة على موقع BBC لكنّها لا تحمل الرموز الإسرائيليّة، ضمن موضوع عن مباراة بين ناديي برشلونة وريال مدريد في العاشر من مارس/ آذار عام 2007، سجّل فيها ميسّي البالغ آنذاك 19 عاماً ثلاثة أهداف، وانتهت بتعادل الفريقين.
ويمكن العثور على تسجيلات للمباراة على "يوتيوب"، وضمنها اللقطة التي رفع فيها ميسّي قميصه لتظهر عليها عبارة Fuerza Tio بالإسبانيّة مكتوبة باللون الأسود. كما يمكن مشاهدة أهداف ميسّي الثلاثة على الحساب الرسمي لفريق برشلونة.
تعني العبارة المكتوبة على قميص ميسّي "كن قوياً يا عمّي". وسئل اللاعب الأرجنتيني عن معنى هذه الرسالة، فأجاب، بحسب صحيفة نيويورك تايمز، بأنّها موجّهة إلى عمّه وعرّابه وهو بمثابة أبٍ له، مضيفاً "هو في الأرجنتين وقد فقد والده أمس".
أما مسألة صورة حائط البراق، ضمن بعثة الفريق في زيارة رسمية نظّمتها سلطات الاحتلال، وظهوره بطاقية على رأسه، فالحقيقة أن كثيرًا من أماكن السياحة الدينية في العالم كله تفرض على زوّارها أشياء خاصة بالأزياء، ولا أظن، مثلًا ومع الفارق، أن ملكة بريطانيا، أو رئيسة وزراء فرنسا، يمكن أن تزور جامع الأزهر أو الزيتونة، من دون أن ترتدي غطاء الرأس وملابس طويلة تستر البدن. وأتذكّر أنني في العام 2012 كنت في زيارة أحد المعابد في إندونيسيا، ضمن وفد من السياسيين من مختلف ألوان الطيف السياسي في مصر، بينهم إخوان وسلفيون واشتراكيون وليبراليون، واشترطت سلطات المكان للدخول ارتداء أحزمة وسط بألوان تتراوح بين الفوسفوري والأحمر الفاقع، لو رأيت صورتها لتعجّبت من المنظر الذي يشبه كثيرًا راقصي الفرق الاستعراضية.
القصد، من العبث تقييم ميسّي بناء على أوهام وأكاذيب تتردّد بإصرار غريب، فيما يتم تجاهل حقائق ثابتة من نوعية أنه مثلًا استجاب لحملات على مواقع التواصل تطالبه بعدم خوض مباراة رفقة منتخب الأرجنتين بدعوة من الاحتلال الصهيوني، وهو الأمر الذي دفع اتحاد كرة القدم فى إسرائيل لتقديم بشكوى رسمية إلى الاتحاد الدولى لكرة القدم (فيفا) ضد ميسّي ولاعبي المنتخب الأرجنتيني بعد قرارهم بإلغاء المباراة الودية التي كان من المحدّد لها السبت التاسع من يونيو/ حزيران 2018، في إطار استعدادات التانغو لخوض نهائيات كأس العالم روسيا.
وما يقال عن ميسّي، ينسحب على خصمه اللدود كريستيانو رونالدو، وإن كان الأخير قد نُسجت حوله أساطير تجعل منه واحدًا من أبطال المقاومة الفلسطينية، على الرغم من أنه، مثلًا، كان بطلًا لحملة إعلانية لصالح شركة كابلات إسرائيلية، وظهر في صور مع وزراء صهاينة، تمامًا كما أن له مواقف مع أطفال غزة.
الشاهد أن من المهم أن تبقى كرة القدم، بوصفها من صور الإبداع، بعيدًا عن هستيريا حملات الجنون والكراهية.
أحببنا ليونيل ميسّي وأردنا الكأس أرجنتينية، من أجل مارادونا وجيفارا والجمال .. أردناها للعالم لا للأرجنتين.