لقاحات كورونا بين العلم والتسييس والأدلجة
مضى عام ونصف العام تقريباً منذ إعلان منظمة الصحة العالمية وباء كورونا "جائحة عالمية". أصيب بها أكثر من مائتي مليون إنسان، وهناك حوالي أربعة ملايين ونصف المليون قضوا بسببها. ومع ذلك، لا تزال البشرية تقبع تحت هذا الخطر الداهم الذي شلَّ مفاصل الحياة، أو عطَّل كثيراً من مناحيها، كما نعرفها، وعلى الصعد والمستويات كافة. الجديد هنا أن الجائحة المعروفة علمياً باسم Covid-19 لم تعد، إلى حد كبير، مجهولاً، كما كان عليه الحال حتى أواخر العام الماضي، بل توصل العلم إلى فهم أفضل للفيروس المسبّب لها، وكيف يعمل، وكيفية الوقاية منه. الأهم في هذا السياق أن العلماء طوّروا لقاحات (مطاعيم) يبدو، إلى الآن، أنَّ جلها آمن بشكل معقول، وهي فعّالة كذلك.
إذا كان مفهوماً أن هذه الجائحة لا تزال ترخي بظلالها الثقيلة على العالم عبر متحوّراتها العديدة وطفراتها المستجدّة، سواء جرّاء عدم القدرة على إنتاج مطاعيم بأعداد كافية وبسرعة كبيرة تغطي احتياجات قرابة ثمانية مليارات إنسان يَعْمُرونَ هذه الأرض، أو بسبب غياب العدالة في توزيعها، فإن المفارقة هي استمرار معاناة دول متقدّمة تملك مطاعيم كافية، تغطي احتياجات سكانها. تفيد المعطيات المتوفرة بأن 14.8% فقط من سكان العالم تلقوا تطعيماً كاملاً من جرعتين، أي 1.16 مليار إنسان. في حين أن عدد من تلقوا جرعة واحدة بلغ حوالي 4.5 مليارات. واستناداً إلى العلماء، فإن نسبة التطعيم الكامل ينبغي أن تصل إلى 70 – 75% لكي تتشكّل "مناعة القطيع". هذا ينسحب على أي دولةٍ ومجتمع، كما ينسحب على البشرية جمعاء، إن أردنا محاصرة الفيروس، والحدّ من قدرته على إنتاج متحوّرات وطفرات جديدة. بمعنى آخر، لا نجاة لأحد إلا إذا ضمنت النجاة للجميع.
المشكلة، هناك كثيرون بيننا يرفضون تلقي المطاعيم، حتى في حال توفرها، وهو ما يجعل من إمكانية السيطرة على الجائحة بعيدة جداً. تتعدّد أسباب هؤلاء ما بين الديني والإيديولوجي، وتبنّي نظريات المؤامرة حول أصل الوباء و"الأغراض" من ورائه، وكذلك التشكك بالعلم وسلامة المطاعيم وأمانها وفعاليتها، فضلاً عن التردّد في أخذها، والمماطلة في ذلك، إلى حين الاطمئنان أن من أخذها لم يعانوا من أعراضٍ جانبية وتداعيات أخطر.
في الولايات المتحدة اليوم أميركتان، واحدة تتعامل بنجاح مع الجائحة، وأخرى تفعل فيها الجائحة أفاعيلها
ليست هذه العقليات حكراً على دول ما يوصف بالعالم الثالث، بل حتى بعض أجزاء ما يوصف بالعالم المتقدّم، تجابه تحدياً من نوع فريد هنا. هم يملكون القدرات الطبية واللوجستية والتقنية على التصدّي للوباء، ولكنهم يقفون عاجزين أمام تفشّيه وانتشاره. خذ مثلاً الولايات المتحدة التي تملك من المطاعيم، التي يجزم الخبراء بفعاليتها وأمانها إلى حد كبير، ما يزيد عن احتياجات سكانها الـ 333 مليوناً، وهي كانت قد بدأت حملة وطنية واسعة للتطعيم المجاني مطلع العام الجاري. ومع ذلك، فإن متحور دلتا ألغى، عملياً، إنجازاتٍ كثيرة تحققت في الأشهر الأخيرة. السبب الرئيس وراء ذلك رفض قرابة نصف الشعب، أو تلكؤه أو تردّده، في تلقي المطاعيم المتوفرة بسهولة، ومجاناً.
كلنا يعلم أن الولايات المتحدة هي أكثر الدول تضرّراً من الجائحة، بعدد حالات تجاوزت 35 مليوناً، وأعداد وفيات تجاوزت ألـ 614 ألفاً. وإذا كان يمكن توجيه اللوم، العام الماضي، للإدارة الكارثية للرئيس السابق دونالد ترامب، فإن المُلام اليوم هم رافضو تلقي المطاعيم، من دون أن ينفي ذلك دور الترامبية، تيارا ونهجا، في تسعير نيران الأزمة. مع تفشّي متحور دلتا وارتفاع حالات الإصابة أميركياً في الأسبوعين الأخيرين، فقط، بنسبة 150%، بدأ أميركيون كثيرون يدركون حجم الفاجعة والخطر، ومن ثمَّ المسارعة إلى تلقي المطاعيم. وعلى الرغم من ذلك، فإن نسبة الأميركيين البالغين ممن تلقوا جرعتين من المطاعيم هي 50.3%، ونسبة من تلقوا جرعة واحدة وصلت إلى 70%. وهاتان نسبتان كان ينبغي أن تصل إليهما الولايات المتحدة في الرابع من الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، حسبما كان أعلن الرئيس جو بايدن. لكن، وبسبب عناد نصف المجتمع الأميركي، غدا المجتمع بأكمله تحت الحصار اليوم. حتى من تلقوا المطاعيم وقت إتاحتها لم تعد تشفع لهم، فهم مطالبون أيضاً بارتداء الكمّامات من جديد، والالتزام بالتباعد الجسدي، وقيود أخرى.
تفيد استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة بأن 17% ما زالوا يعارضون، مطلقاً، الحصول على اللقاح
كارثة أن يتم تحويل جائحة صحية إلى قضية دينية أو إيديولوجية أو سياسية أو مادّة تهريج إعلامي. هذا عبث، بل إجرام وسفاهة وحماقة. تفيد استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة بأن 17% ما زالوا يعارضون، مطلقاً، الحصول على اللقاح. 70% من هؤلاء جمهوريون، بينما 6% فقط ديمقراطيون. وفي الولايات المتحدة اليوم أميركتان، واحدة تتعامل بنجاح مع الجائحة، وأخرى تفعل فيها الجائحة أفاعيلها، كتكساس وفلوريدا ولويزيانا. والسبب تقديم حكام تلك الولايات مصالحهم الانتخابية على مصالح مواطنيهم، ومحاولة لاسترضاء قواعد إيديولوجية عمياء صمّاء. يحدث ذلك كله، في حين تؤكد المعطيات العلمية أن أقل من 0.004% ممن تمَّ تطعيمهم بالكامل أصيبوا بعدوى كورونا بشكلٍ استدعى دخولهم إلى المستشفى. أما نسبة الوفيات بينهم بسبب الفيروس فهي أقل من 0.001%. بمعنى آخر، اللقاحات تعمل بشكل ممتاز، حسب الدراسات العلمية المتوفرة، ولكن ثمَّة من يصر على أدلجة المسألة وتسييسها وتحويلها إلى موضوع جدل شعبوي إعلامي فارغ، طلباً لمزيد من المشاهدات.
الوضع في أميركا ليس إلا نموذجاً واحداً يصلح للتعميم في أجزاء كثيرة من العالم. أتيحت لي في الإجازة الصيفية أن أزور تركيا والأردن. صحيحٌ أن المطاعيم في البلدين ليست متوفرة بشكل كاف لكل من يريدها، ولكنني جلست مع كثيرين يتباهون بأنه أتيحت لهم فرصة تلقي المطعوم ورفضوه. منطقهم إما أنه قائم على رعونة وتبجّح، أو تشكك بالعلم وفعالية المطاعيم وأمانها، أو حتى التشكيك بوجود كورونا أصلاً، دع عنك القصص الركيكة عن محاولات "الحكومة العالمية" السيطرة على البشر والحدّ من نسلهم وتكاثرهم! وحتى يجد العالم طريقة لتوفير مطاعيم كافية لكل من يحتاجها، وحتى يتمكّن من توزيعها وإيصالها، ثمَّ إقناع الناس بأخذها، ستبقى البشرية تحت رحمة هذه الجائحة، وربما قد تقودنا إلى جائحةٍ أخرى أكثر فتكاً لا قدر الله.
كلمة أخيرة، هذه ليست شهادة لناحية أمان المطاعيم على الإطلاق، فلستُ خبيراً ولا متخصّصاً، ولكن عندما أُخَيَّرُ بين اتباع خبراء (وعلماء) وبعض سقط المتاع من أدعياء المعرفة من الشعبويين، أختار العلم، وأتوكل على الله.