لعبة اللغة وسوء الفهم

09 ديسمبر 2021

(محجوب بن بلة)

+ الخط -

سوء الفهم لما يكتبه الكاتب سلوكٌ منتظرٌ ومتوقع، في ظلّ مخاتلة اللغة وظلال الكلمات الكامنة وراء معانيها الحقيقية. وعلى الرغم من حرص الكتّاب على توضيح ما يريدون، خصوصاً في المقالات، فإنّ سوء الفهم يحدُث دائماً، فيتسبّب بمشكلات، ويفجّر ألغاماً كثيرة مزروعة تحت أرض المقاصد. أما في الكتابة الإبداعية، شعراً وقصة ورواية وغيرها، لا مشكلات كبرى من سوء الفهم، ذلك أنّ للمتلقي الحق في التأويل التلقائي لما يقرأ، ما دام المبدع قد ترك له مسافةً يمكن أن يمارس فيها ألعاب القراءة والكتابة.

وفي رحلتي الطويلة مع القراءة والكتابة، عشت الحالة على الجانبين. في الجانب الأول، أسأت فهم بعض ما قرأته للمرة الأولى غالباً، ولمرّات كثيرة في محاولات اللحاق بالقصد الحقيقي مرّات قليلة. أما في الجانب الآخر فقد صادفت آراء ووجهات نظر وتعليقاتٍ كثيرة على ما أكتبه من مقالات وتدوينات وتغريدات، تعتمد على فهم مغاير لما قصدته من معنى. وبالتأكيد، سوء الفهم الناتج عن تحولات اللغة وتركيباتها وطرائقنا المختلفة في تلقيها وفقاً لمستوى ثقافاتنا ومعارفنا وغيرها، أمر معقول جداً، حتى وإن كان سبباً في اختلافات مجانية كثيرة، يتبدّد معظمها لاحقاً، عندما تتّضح المعاني الحقيقية، وتختفي الظلال تحت وهج الضوء.

لكن من غير المعقول وغير المقبول أن يتكئ سوء الفهم على نياتٍ مغرضة، تحاول أن تحرف المعاني عن دروبها، وتخترع أفهاماً جديدة لها، غالباً ما تكون على العكس تماماً مما أراده الكاتب، ودائماً بغرض إيذائه والتأليب الجمعي عليه. وغالباً ما يكون السبب آراء أخرى سابقة كتبها الكاتب، إذ لا مجال لسوء الفهم أو التأويل، فيتحيّن من يريد التأليب عليه أي معنى ملتبس على طريق الكلمات لاحقاً لينفذ المهمة!

قبل أيام، تعرّضت لمثل هذا النوع من التأليب، بسبب تغريدةٍ كتبتها في حسابي على موقع "تويتر" ولأنها تغريدةٌٌ شبه ساخرة، ويمكن أن تحتمل أكثر من معنى، وفقاً لمستوى القراءة والتلقي، فقد قرّر بعض ممن قرأها أن يؤولها بالمعنى الأسوأ، والذي لا يمكن لمن يتابعني في "تويتر" أن يصدق ذلك المعنى الذي يحيل إلى العنصرية. مع هذا، أمعن من يريد الإمعان بالإساءة، باحثاً عما غمض من قصد، ليعيد صياغته بكلماته هو، ووفقاً لسوء فهمه المقصود بالتأكيد.

بدت الحادثة صغيرة، وانتهت مع كلّ تبعاتها بعد مرور ساعاتٍ قليلة، فقطار مواقع التواصل لا يكاد يتوقف طويلاً عند تلك المحطات الصغيرة، لكنّ الأثر بقي في نفسي تفكّراً بما حدث؛ أسبابه ونتائجه وتحوّلاته، وعلاقة اللغة بوصفها أداة تواصل، به، وحجم مسؤوليتي عنه باعتباري كاتبة، مقارنة بحجم مسؤولية المتلقي الذي فهم القصد، أو الذي التبس عليه المعنى، أو ذلك الذي تعمد إيجاد معنى جديد أو مسيء!

لكلّ منا نصيب من العلاقة، ونصيب من المسؤولية، وإن كان الحجم متفاوتاً على الصعيد الأخلاقي على الأقل. لكنّ اللغة وحدها البريئة، على الرغم من خواصها المخاتلة وظلالها الكثيرة ومعانيها المتحوّلة وتراكيبها المائعة، فاللغة، في كلّ أحوالها، وسيلة وغاية. ونحن الذين نتواصل بعضنا مع بعض من خلالها على صعيد الكلام أو الكتابة، نتحوّل أحياناً إلى مجرد أدوات فاعلة، نحاول الاستفادة من كلّ ممكناتها المتاحة لنا، وفقاً لقدراتنا، لا لكي نُفهم الآخرين ما نريد ونفهم بدورنا ما يريدون وحسب، لكن أيضاً لنستمتع بلعبة البحث عن المعنى الحقيقي المتكوّن بيننا.

لعلّ القارئ الآن لاحظ أنّني لم أعِد كتابة التغريدة التي أسيء فهمها مثالاً على ما أردت التعبير عنه في هذا المقال، ولعلّه اكتشف أنّني فعلت ذلك تعمّداً وتقصّداً، بهدف عدم تكريس المعنى السيئ المختلق .. على الرغم من أنّه انتهى ومات.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.