لعبة الإيحاء
كلنا نعرف حكاية الملك العاري الذي طلب من أشهر خياطيه أن يخيط له رداءً ملكيا، لم يَخِط مثله لأحد من قبل أو سوف يعدم. فأتى الخياط إلى الملك وأوهمه أنه خاط له رداء استثنائيا، وظل يدور حوله، وهو يلبسه الرداء الخاص، ويطلب منه أن يعدّل كتفيه وأن يزرّر الأزرار وهكذا؟ غرور الملك وجبروته لم يجعلاه يشكّ لحظة أن الخياط لم يخط شيئا في الحقيقة، وأنه هو لم يرتد أي ثوب، وسيخرج للناس عاريا. لم يخطر لحاشية الملك أن ملكهم الجبار لا يدرك أنه عار، وحين كان يسألهم عن الرداء كانوا يقولون له إنه عظيم، فقد عاشوا حياتهم يتملقونه خشية العقاب، لن يستطيعوا أن يقولوا له ما يخالف رأيه أو أن يواجهوه بالحقيقة، لم يعتادوا على هذا، ومثلهم باقي الشعب. لمّا خرج في المدينة متباهيا بثيابه الوهمية، صفق الجمهور المصطفّ على جانبي الطريق مبتهجين بالرداء الجميل الذي لا وجود له. لكنه قال إنه سيريهم ثيابا جديدة فإذا هو يرتدي ثيابا جديدة، لم يتجرأ أحد على قول الحقيقة سوى طفل صغير لم يصب الرعب قلبه بعد، ولم يعرف الكذب طريقا له.
ما سبق كان ملخصا لحكاية تستخدم دائما في سيرة الحكام والشعوب، في سيرة الجبروت والطغيان، وسيرة الخوف ودوره في الكذب والتملق، وسيرة الصدق الذي يتحلّى به الإنسان، ما دام لا يخشى العقاب. بيد أن ثمّة سيرة أخرى في الحكاية قلما يلتفت إليها أحد: سيرة الإيحاء. يعرّف الإيحاء في علم النفس بأنه "التصرّف وقبول أفعال بناء على آراء الآخرين، حيث يتم تقديم معلومات خاطئة، لكنها قابلة للتصديق، فيبدأ المرء بملء مجموعة من الفجوات بذاكرته بتلك المعلومات الخاطئة في لحظة معينة". في الحكاية السابقة، أوحى الخياط للملك أنه خاط له الثوب، وأكّدت حركات يديه وهو يوحي له أنه يُلبسه الثوب الجديد ذلك. الملك الجبار المترفّع عن الواقع والحقيقة تلقى عقله ذلك الإيحاء، ونقله إلى حاشيته وشعبه المصطفّ على جانبي الطريق ينتظر استعراضه ثيابه الجديدة، اللعبة كلها في الحكاية قائمة على الإيحاء الذي لم يختبره بعد عقل الطفل فنطق بالحقيقة.
والحال أن بديهيات كثيرة في حياتنا قائمة على فكرة الإيحاء، بدءا من الدين وليس انتهاء بالسياسة، وطبعا مرورا بالفنون على أنواعها، وربما قد نجد خيطا يجمع نشوء الأديان باختراع الفنون، هو الخيط الذي يربط العقل البشري بإدراك الموت، فالأديان والفنون وجدت لتجميل فكرة الحياة التي تنتهي بالموت، لتجميل فكرة الموت، لتلطيف سؤاله وجعله أقلّ خوفا وأكثر إنسانية، جرى ذلك عبر الإيحاء، فلا شيء يتم لمسه عبر الحواسّ المعروفة. كل ما نتقبله، في الحالتين، هو عبر عمليةٍ عقليةٍ جرت بلعبة الإيحاء. الإيمان بالغيبيات التي لا نلمسها نتقبلها عبر الإيحاء بوجودها، كذلك الفنون: كيف نُغرم بلوحةٍ تجريديةٍ إن لم نكن في لحظة رؤيتنا لها نستقبل إيحاء ما؟ كيف تشدّنا الموسيقا الكلاسيكية أو الموسيقا التي لا يصاحبها غناء وكلمات محسوسة؟ كيف نستمتع بنصٍّ شعري أو بعمل روائي نعرف جيدا أنه مجرّد فكرة خطرت في بال كاتب، واستطاع أن يجعل منها عملا فنيا وضعه في عقلنا عبر الإيحاء أن هذا العمل يمثل كلا منا؟
ليست لعبة الإيحاء دائما منتقلة عبر آخرين، قد تكون، في أحيانٍ كثيرة، عملية عقلية ذاتية داخل عقل الشخص ذاته من دون تدخل آخرين، وهو ما يسمّى الإيحاء الذاتي، اللعبة التي يلعبها كثيرون منا في أثناء محاولاتنا للتأقلم مع ظروف جديدة طارئة، نفسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو صحية، ويستخدمها المرشدون النفسيون مع مرضاهم لمساعدتهم على تجاوز أزمةٍ ما. ويقال إن أدوية نفسية كثيرة تعمل عبر خاصية الإيحاء في العقل البشري، عبر تغيير شيء من التركيب الكيميائي للدماغ، فتجري عملية الإيحاء الذاتي داخل العقل نفسه، ما يساعد المصاب بأزمةٍ ما على تجاوزها.
شخصيا، أعترف أنني ألعب هذه اللعبة كثيرا مع نفسي، في حالات الخوف التي أمر بها، سيما الخوف من المرض أو من الشيخوخة. ربما يساعدني الشعر على فعل ذلك، وربما أجمل ما في الشعر أنه إيحاء، وأجمل ما في الفن أيضا، لو خلت حكاية الملك العاري من لعبة الإيحاء لفقدت كل جمالها، ولتحولت إلى موعظةٍ تستخدم في السياسة فقط، وهل من شيءٍ يصيب بالملل أكثر من موعظةٍ سياسيةٍ أو اجتماعية؟