لبنان منهوب وليس محاصراً
مع إعلان السفيرة الأميركية في بيروت عدم ممانعة بلادها تزويد لبنان بالغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سورية، ظهرت أصواتٌ تابعة لأقطابٍ في النظام اللبناني، ولأحزابٍ وشخصياتٍ ومشايعين، ليعلنوا انتصار لبنان على الحصار الأميركي المفروض عليه، وبالتالي بدء حل مشكلة الطاقة التي يعاني منها. وفي إشاراتهم تلك، تركيز على أن مشكلات لبنان كانت نتيجة ذلك الحصار الذي يتحدّثون عنه، وليس نتيجة سياسات النهب التي مارسوها من عشرات السنين. وقد كانت بهجتهم عارمةً، إلى درجة أنها غيَّبت عن بالهم أن الخطوة الأميركية ليست سوى استباق لمحاولات زيادة نفوذ إيران الاقتصادي في هذا البلد، بعد خطوة حزب الله استقدام باخرةٍ تحمل المازوت من إيران وتحذيره من استهدافها.
وقد جاءت الخطوة الأميركية بعد تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية في لبنان، وفي إثر انهيار عملته وشحّ موارده من الوقود، بسبب عجز الدولة عن تمويل استيراده وعن صيانة معامل الطاقة بسبب نقص السيولة لديها. وانعكس ذلك عتمةً حلّت على البلاد برمتها، وازدحاماً على محطات الوقود، وتوقف أفرانٍ ومستشفيات ومصانع كثيرة عن العمل وعن تقديم خدماتها بعد فقدان الفيول والبنزين والمازوت. وفي هذا الوقت، أعلن أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، عن نية حزبه استقدام سفينة مازوت من إيران، وهدّد من محاولة منع رسوها في الموانئ اللبنانية، كما هدّد من استهدافها في عرض البحر معتبراً إياها أرضاً لبنانية، متوّعداً بالرد على الأميركيين أو الإسرائيليين إن قصفوها، كما فعلوا مع سفنٍ أخرى كانت تتجه إلى الشواطئ السورية.
لمس الأميركيون عدم معارضة أيٍّ من الأطراف اللبنانية استقدام المازوت من إيران، أو من أي دولة أخرى
وإزاء هذه الحال، قرّر الأميركيون إيجاد حلٍّ لمسألة الوقود والكهرباء التي يعاني لبنان منها، فوجدوه في الغاز المصري والكهرباء الأردنية. لذلك أبلغت السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيّا، الرئيس اللبناني، ميشيل عون، في 19 أغسطس/ آب الماضي، قرار بلادها مساعدة لبنان بهذه الطريقة. وكون سورية هي دولة المعبر للغاز وللتيار الكهربائي، لم تمانع واشنطن التعاون بين لبنان وسورية والأردن ومصر لإتمام هذا المشروع، فتوجّه وفد وزاري لبناني إلى دمشق للحصول على موافقتها بمرور الغاز عبر أراضيها إلى مدينة طرابلس، واستخدام شبكة الكهرباء السورية لنقل التيار الكهربائي إلى لبنان وحصل على موافقة حكومتها.
لمس الأميركيون عدم معارضة أيٍّ من الأطراف اللبنانية استقدام المازوت من إيران، أو من أي دولة أخرى، ما دام ذلك يخفّف من الكارثة التي يعيشونها. والمقصود بتلك الأطراف "فريق 14 شباط" الذي عادة ما يعارض أي تقارب بين الدولة اللبنانية وإيران، خوفاً من إلحاق بلادهم بالأخيرة. وقد كانت للبنان تجربةً مماثلةً، في أوقاتٍ سابقة، حين أبدت إيران استعدادها لتسليح الجيش اللبناني. وحين أعلن نصر الله استعداد إيران تزويد لبنان بالأدوية التي يحتاجها، لاقت هذه الفكرة معارضةً صريحةً من ذلك الفريق، فلم يتم الأمر. لكن تلك المعارضة اختفت، أو خفتت، مع مسألة سفينة المازوت الإيرانية بسبب تردّي الحال في البلاد إلى مستويات غير مسبوقة، والحاجة إلى استدراك الانفجار الاجتماعي الذي يمكن أن يطيح الطبقة السياسية هذه المرّة إن وصل الشعب اللبناني إلى مرحلة العجز عن التحمُّل، وقرّر التخلص من مسبّبي أزماته، القابعين في مراكز القرار فيه.
تسبّب جبران باسيل بمشكلة للبلاد، حين أراد تحييد معامل الطاقة في لبنان وتهميشها مقابل تجديد التعاقد مع بواخر توليد الطاقة التركية
يحاول بعض أقطاب النظام، عبر وسائلهم الإعلامية وذبابهم الإلكتروني، ترويج فكرة أن الحصار الأميركي هو سبب أزمة الوقود في لبنان، بينما ليس هنالك حصار من هذا القبيل سوى في عقولهم؛ القضية قضية عقوبات أميركية طاولت حزب الله وأعضاء من الحزب، وحتى المتحالفين معه، من قبيل رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، صهر الرئيس اللبناني والمتحكّم بعقود الوقود فيه. وتسبّب باسيل بمشكلة للبلاد برمتها، حين أراد تحييد معامل الطاقة في لبنان وتهميشها مقابل الدوام على تجديد التعاقد مع بواخر توليد الطاقة التركية، وهو ما تسبّب، على المدى البعيد، في أزمة الكهرباء التي تفاقمت منذ أشهر. وجاهد باسيل، حين كان وزيراً للطاقة والمياه، من أجل تجديد التعاقد مع تلك البواخر، على الرغم من أن العقد الأول كانت لسنتين لا غير، تتمكّن الحكومة فيهما من حلّ مشكلة معملي الطاقة في الزهراني ودير عمار وصيانتهما وتزويدهما بالوقود أو بناء محطة توليد إضافية، على الرغم من أن تكاليف ذلك التعاقد كانت تكفي لبناء محطة توليد ثابتة ودائمة. وهذا ما دفع الإعلام إلى البحث عن الدوافع وراء تجديد التعاقد، فوجدها في عقود جانبية تتضمن سمسرات بملايين الدولارات التي كانت من نصيب أشخاص مقرّبين من باسيل ومن رئيس الحكومة السابق، سعد الحريري، ما دفع القضاء إلى التحقيق في الأمر، والحجز على الباخرتين التركيتين، واعتقال ضالعين في العقود مقرّبين من باسيل والحريري.
هدف محاولات ترويج انتصار على الحصار الأميركي هو إعادة تعويم النظام اللبناني الذي اهتزّت أركانه
كما تستمر محاولات أقطاب النظام التعمية على حقيقة أن فقدان السيولة من البنوك اللبنانية هو السبب الحقيقي وراء عجز الدولة عن استجرار الوقود من أي بلد أو عن صيانة محطات التوليد. إذ تبخّرت السيولة من البنوك اللبنانية في ليل الاحتجاجات، أواخر سنة 2019، حين نهب المسؤولون اللبنانيون مدّخرات أبناء الشعب اللبناني من العملة الصعبة، وحوَّلوها إلى حساباتهم في البنوك الغربية، خوفاً من أن تطيحهم المظاهرات التي عمّت البلاد. وأدّى تهريب تلك المبالغ إلى الانهيار المالي، وتدهور سعر صرف العملة الوطنية حتى وصل إلى 20 ألف ليرة لبنانية مقابل الدولار، بعدما كانت 1500 ليرة مقابل الدولار قبل الأزمة التي ضربت البلاد من سنتين. ويحاولون إخفاء الحقيقة التي كشفتها وزارة الخزانة المالية قبل سنتين، وتحدّثت عن نهب الطبقة السياسية في لبنان مبالغ وصلت إلى مئات مليارات الدولارات من قروضٍ دوليةٍ وسمسراتٍ وتلزيماتٍ وغيرها.
لا يخفى على أحد أن هدف المحاولات خلف هذا الترويج لانتصار على الحصار الأميركي إعادة تعويم النظام اللبناني الذي اهتزّت أركانه، ولحق الصدأ وجوه أقطابه، بعدما سقطوا في أعين اللبنانيين. والأخطر من ذلك افتضاح أمرهم لدى كثيرين ممن كانوا يدينون بالولاء لزعماء طوائفهم، فلم يروا منهم أي خطوة لوقف التدهور، بل وجدوا أنهم سبب تحوُّل 85% من سكان البلاد إلى فقراء يعجزون عن تأمين رغيف الخبز. ويرى هؤلاء أن تضخيم فكرة الحصار الأميركي لن تنفع، لأن أي حصار لا يمنع استيراد الطحين، ويتغاضى عن استيراد الوقود، كما لا يمنع استيراد الدواء الذي تبيّن أن فقدانه من الأسواق ليس العجز عن استيراده بسبب نقص السيولة فحسب، بل احتكاره لدى أناس مقرّبين من زعماء الطوائف الذين لا يتوقفون عن شتم الحصار في النهار، ونهب مقدّرات البلاد في الليل.