04 نوفمبر 2024
لبنان عندما يتريّث
غادر لبنان، أمس، صدمة استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة، وقد أرادها صاحبُها "صدمةً إيجابيةً"، إلى المقطع الراهن من أزمته (المستدامة؟)، وعنوانُه التريّث. وهذه مفردةٌ تعني، في معاجم العربية، الإبطاء والتمهّل. وعلى ما أوجز الحريري، أنه قدّم استقالته إلى الرئيس، ميشال عون، فتمنّى عليه التريّث، فاستجاب صاحبُنا، مؤمّلاً أن يشكل قرارُه هذا مدخلاً جدّياً لحوارٍ "مسؤول" في لبنان، وأعاد التأكيد على ضرورة التزام سياسة النّأي بالنفس عن الحروب والصراعات والنزاعات الخارجية. ومما يُفهم هنا أن إنعاشاً كلاميا قد يشهده لبنان في الأيام المقبلة للتفاهمات في البيان الوزاري لحكومة الحريري، ولمثيلتها في بيان القسم للرئيس عون، ولبنود التسوية التي جاءت بالرجليْن إلى السراي وقصر بعبدا. والمتوقّع أن يخوض الجميع في قصة النّأي بالنفس هذه، وأولهم حزب الله الذي تُرمى إليه وحده المطالبات باتّباع هذا النّأي الذي لن يعتصم الحزب بموقفٍ ضده. أما معناه فقصةٌ أخرى، فثمّة ثوابتُ وثمّة متغيراتٌ، وما أناط حزب الله بنفسه مقاتلة التكفيريين والداعشيين والإرهابيين عموماً في سورية إلا لحماية لبنان، وهو السبب نفسه الذي قاتل إسرائيل من أجله. أما الاتهامات بتدخل الحزب بعناصر وأسلحة في أي بلد عربي آخر (باستثناء فلسطين)، فاتهاماتٌ في وسع الوزير السعودي، عادل الجبير، أن يردّدها كما يشاء، ونفي حسن نصرالله لها هو ما يلزم تصديقُه في لبنان، في غضون "حوارٍ مسؤول" أو بعيداً عنه.
ولأن التريّث يعني التأنّي، وكلما طال يكون أفضل، فإن في مقدور حزب الله الذي استبق أمينُه العام الجميع في سورية، في إعلان موت دولة "داعش" هناك، أن يبدأ، في أثناء مدة التريّث (شهور طبعاً) جدولة سحب عناصره من البلد الجار، ليس كرمى لعيني أحد، وإنما لأن الطبخة تقترب من الاستواء، فمعالم الحل قيد الإنضاج، وهو ذو مضامين روسية بأنفاسٍ إيرانيةٍ ورضىً أميركي وعوْنٍ تركي، وقمة بوتين وأردوغان وروحاني، أمس في سوتشي التي هبط فيها بشار الأسد قبل يوم، تضع اللمسات شبه النهائية للتسوية، وبقاء الأسد أو رحيله تفصيلٌ غير جوهري، ستحسمه دحرجة الإيقاع السياسي العام بعد جولة جنيف التفاوضية الثامنة بعد أيام. وللمعارضين السوريين أن يقولوا، في اجتماعهم في الرياض، ما يشاؤون، ويصعدوا إلى أي سقوفٍ أرادوا، فليس على الكلام جمرُك، فالذي سيسمعه ممثلوهم في المدينة السويسرية، بعد أيام، أهمّ مما يدردشون عنه، أو يختلفون بصدده، عندما يستقيل منهم من يستقيل، وعندما لا يستقيل منهم من لا يستقيل.
ولكن، ما صلة هذا كله بتريّث لبنان؟ له كل الصلة، طالما أن شهور التريّث هي التي ستشهد إجراء ميدانياً من جانب حزب الله في سورية، بانسحابٍ عسكريٍّ مجدول من هناك مثلاً، على وقْع نواتج قمة سوتشي وتفاهمات أستانة وتطبيقات بيان ترامب بوتين المتوافَق عليه في فيتنام. هذا هو لبنان أصلاً، فلم تنتهِ أزمةٌ عَبَر فيها، منذ أزيد من خمسين عاماً، إلا بعد تريّثه بانتظار نضوج تفاهمات الخارج. وفي وسع سعد الحريري أن ينتظر التأثيث النهائي لتسوية سوتشي السورية، ومخرجات الحوار السوري المقبل في سوتشي (أيضا)، وهو مصنّع روسيّاً. وحتى الوصول إلى الانتخابات النيابية في لبنان في مايو/ أيار المقبل يمكن التسلي بمكايداتٍ كلاميةٍ، وبثرثرات الفضائيات، وبتغريدات ثامر السبهان، ومرجلات عادل الجبير التي لا يدري أحدٌ على أي موازين قوى يقف هذا الرجل، وهو يطلب سحب سلاح حزب الله (!).
على أي حال، جاءت غضبة السعودية من سعد الحريري، وإرغامه على الاستقالة التلفزيونية إياها، لصالحه تماماً، وخصمت من مكانة المملكة، الهابطة في لبنان وغيره، فقد أعيد إنتاجه زعيماً، بل في الوسع أن يُقال إن شيئا من الحريريّة نفسها عرف، في الأسبوعين الماضيين، انتعاشاً طيباً في الداخل اللبناني. وبمراجعة الأرباح والخسائر في حصاد الأزمة منذ الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني، يتبيّن أن ترميم زعامة سعد الحريري، وتصليبها وإصلاح أعطابٍ فيها، كان أهم النواتج، وهو أمرٌ لم تقصد إليه الرياض. والرهان تالياً هو على مدى قدرة سعد الحريري على حماية هذه الزعامة المتجدّدة، وصيانتها، طوال شهور التريّث، السورية اللبنانية طبعاً.