12 يوليو 2024
لبنان.. اشتباك أخلاقي وسياسي
أسبوعان على الانتفاضة اللبنانية كافيان لرسم المشهد بوضوح. ما يجري اليوم هو اشتباكٌ على مستويين. الأول سياسي - شعبي ومتفرّع. والثاني على مستوى أخلاقي، يحضر في أبشع صوره عندما تقف فئة مسحوقة فقراً تهلل لمحاولات وأد انتفاضةٍ طال انتظارُها، وهدفها تحسين أوضاع كل اللبنانيين. في الاشتباك الأول، استحضرت السلطة، بمختلف أركانها، جميع الأدوات التي تجيدها، وكلٌّ منها، بحسب نفوذه وحجم قوته وجرأته في التعبير عما يريده. بدأت الحكومة بالترغيب عبر الورقة الإصلاحية التي سقطت في يوم إعلانها، واتبعت بخطاب للرئيس ميشال عون، لم يعره المحتجون أي اهتمام. وسرعان ما انتقل اثنان من أركان السلطة، تحديداً حزب الله وحركة أمل، اللذين يعيشان فائضاً من القوة، إلى البلطجة العلنية، في ترجمةٍ واضحةٍ لخطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، الثاني منذ الانتفاضة، والذي استخدم فيه كل ما أوتي من عبارات الترهيب واستحضار نظريات المؤامرة والعمالة والتهديد بالحرب الأهلية. وبعدما فشلت عملية ترهيب المحتجين في صور والنبطية، قرّر الثنائي تجريب هذا السيناريو في بيروت.
أُطلق الزعران على محتجي بيروت فضربوهم وطاردوهم وأحرقت الخيم، ولكن ذلك كله زال تأثيره بعد ساعات، فعاد المتظاهرون إلى ساحتي الشهداء ورياض الصلح، مردّدين بأعلى أصواتهم "مش (لن) حنخاف"، وتضامنت كل الساحات وازداد زخمها، ما شكّل ضربة إضافية لأهداف المراهنين على القمع.
حدث ذلك في وقتٍ كانت خلافات السلطة تبلغ ذروتها. رفضت تقديم أي تنازلاتٍ في ما بينها حتى لو كان على شاكلة تعديل وزاري، يطيح وزراء التأزيم، في مقدمتهم وزير الخارجية، صهر الرئيس ميشال عون، جبران باسيل. وكانت النتيجة رضوخ رئيس الوزراء، سعد الحريري، لمطلب الحراك بالاستقالة، لكنه رمى، في الوقت نفسه، الكرة في ملعب باقي أركان السلطة، لاسترضائه على أمل العودة، بعدما حدّد شروطه.
ووسط ذلك كله، لم يتراجع الحراك، لأنه يدرك أن المعركة طويلة، وأن العودة إلى المنازل اليوم ضربة قاضية لمحاولة التغيير التي لا تزال فرصها قائمة. واكب المحتجون كل خطوةٍ من السلطة بتحرّك مضاد، فكانوا قادرين على الاشتباك سياسياً معها، وبلورة خطابٍ مضاد، يفند أكاذيبها ويعرّيها. حتى أنهم اضطروا لإعادة التذكير بالبديهيات. أولها أن الاحتجاجات لم تفض إلى الانهيار، بل إنها بسبب الوضع الاقتصادي المتردي. وثانيها أن قطع الطرقات والعصيان المدني من وسائل الاحتجاج والضغط المشروعة، متى ما استدعت الحاجة، وليست سبباً للفوضى.
أما خطر الحرب الأهلية، فلا يأتي منهم، بل من الذين يفضلون حرق البلد على تقديم أي تنازل على قاعدة إما أن تبقوا كلبنانيين خاضعين ترضون بمن يحكمكم وينهبكم وتدفعون ثمن الانهيار الاقتصادي بصمت، وإلا لن نريحكم، وسنشعلها ناراً تلتهم الجميع.
ويحيل هذا الوضع إلى اشتباكٍ ثانٍ أخلاقي، أفرزته هذه الانتفاضة من دون أن يكون هامشياً. في لحظة ضرب المحتجين في بيروت، كان هناك من يهلل بفجور للمشهد المخزي، متسلحاً بكل المبرّرات التي ردّدها نصر الله من تآمر وعمالة. وضع الفقراء والمهمشين في وجه من خرج من أجلهم، طلباً لتحسين أوضاعهم. ومع كل ضربةٍ كان يوجهها أحد هؤلاء إلى محتج، ومع كل تهليل للمشهد، كان يحضر ألف سؤال. كيف يمتلك من يجلس في منزله، ويشاهد البث الحي عبر الشاشات لكل ما يجري القدر على تبرير ما يجري؟ إلى أي مدىً استطاع الزعماء، عبر لعبهم على وتر المظلومية السياسة حيناً، والطائفية حيناً آخر، في جعل هؤلاء المواطنين يراكمون فائضاً من الخنوع، حتى باتوا يكذبون أعينهم، ويصفقون لمن أفقرهم وأذلهم على أبواب المستشفيات والمدارس والجامعات والإدارة، بعدما حوّل حقوقهم إلى مجرد منّةٍ يمنحها لمن يشاء ويحرم منها من يشاء. ما يجري ليس فريداً من نوعه، لا في تاريخ لبنان، أو المنطقة أو العالم، لكنه يبقى موجعاً ومحبطاً.
حدث ذلك في وقتٍ كانت خلافات السلطة تبلغ ذروتها. رفضت تقديم أي تنازلاتٍ في ما بينها حتى لو كان على شاكلة تعديل وزاري، يطيح وزراء التأزيم، في مقدمتهم وزير الخارجية، صهر الرئيس ميشال عون، جبران باسيل. وكانت النتيجة رضوخ رئيس الوزراء، سعد الحريري، لمطلب الحراك بالاستقالة، لكنه رمى، في الوقت نفسه، الكرة في ملعب باقي أركان السلطة، لاسترضائه على أمل العودة، بعدما حدّد شروطه.
ووسط ذلك كله، لم يتراجع الحراك، لأنه يدرك أن المعركة طويلة، وأن العودة إلى المنازل اليوم ضربة قاضية لمحاولة التغيير التي لا تزال فرصها قائمة. واكب المحتجون كل خطوةٍ من السلطة بتحرّك مضاد، فكانوا قادرين على الاشتباك سياسياً معها، وبلورة خطابٍ مضاد، يفند أكاذيبها ويعرّيها. حتى أنهم اضطروا لإعادة التذكير بالبديهيات. أولها أن الاحتجاجات لم تفض إلى الانهيار، بل إنها بسبب الوضع الاقتصادي المتردي. وثانيها أن قطع الطرقات والعصيان المدني من وسائل الاحتجاج والضغط المشروعة، متى ما استدعت الحاجة، وليست سبباً للفوضى.
أما خطر الحرب الأهلية، فلا يأتي منهم، بل من الذين يفضلون حرق البلد على تقديم أي تنازل على قاعدة إما أن تبقوا كلبنانيين خاضعين ترضون بمن يحكمكم وينهبكم وتدفعون ثمن الانهيار الاقتصادي بصمت، وإلا لن نريحكم، وسنشعلها ناراً تلتهم الجميع.
ويحيل هذا الوضع إلى اشتباكٍ ثانٍ أخلاقي، أفرزته هذه الانتفاضة من دون أن يكون هامشياً. في لحظة ضرب المحتجين في بيروت، كان هناك من يهلل بفجور للمشهد المخزي، متسلحاً بكل المبرّرات التي ردّدها نصر الله من تآمر وعمالة. وضع الفقراء والمهمشين في وجه من خرج من أجلهم، طلباً لتحسين أوضاعهم. ومع كل ضربةٍ كان يوجهها أحد هؤلاء إلى محتج، ومع كل تهليل للمشهد، كان يحضر ألف سؤال. كيف يمتلك من يجلس في منزله، ويشاهد البث الحي عبر الشاشات لكل ما يجري القدر على تبرير ما يجري؟ إلى أي مدىً استطاع الزعماء، عبر لعبهم على وتر المظلومية السياسة حيناً، والطائفية حيناً آخر، في جعل هؤلاء المواطنين يراكمون فائضاً من الخنوع، حتى باتوا يكذبون أعينهم، ويصفقون لمن أفقرهم وأذلهم على أبواب المستشفيات والمدارس والجامعات والإدارة، بعدما حوّل حقوقهم إلى مجرد منّةٍ يمنحها لمن يشاء ويحرم منها من يشاء. ما يجري ليس فريداً من نوعه، لا في تاريخ لبنان، أو المنطقة أو العالم، لكنه يبقى موجعاً ومحبطاً.