لا عزاء للمتضرّرين من التقارب التركي السوري

17 يوليو 2024
+ الخط -

الدول مصالح، وليست جمعيّات خيريّة مفتوحة الأبواب تقدّم منحاً دائمة وشيكاً على بياض للمعارضات التي تستضيفها. القِرشُ الذي تصرفه دولة ما على معارضة لدولة أخرى تنتظر أن تقبض أضعاف أضعافه مستقبلاً. يفترض أن يعي هذه البديهية ويدركها كل من يعمل في السياسة القائمة على المصالح التي لا صداقات أبديّة أو عداوات أبديّة فيها. إذاً، والحال هذه، على المعارضة السوريّة المتعاونة مع تركيا منذ 2011 عدم الإصابة بالذعر والهلع نتيجة التقارب الحاصل بين النظامين في تركيا وسورية. ذلك أنّه مهما أبدت هذه المعارضة من الممانعة والتحفّظ والامتعاض والرفض والقلق والغضب المعلن وغير المعلن، لن تستطيع إخراج قطار العلاقات بين أنقرة ودمشق عن مساره. أصلاً، كان يفترض بالمعارضة السوريّة أن تدرك تمامًا أنّ "الدور جاي عليها"، عندما بدأت تركيا بتطبيع علاقاتها مع مصر، وطبيعي أنّ ذلك سيكون على حساب المعارضة المصريّة، وتحديداً جماعة الإخوان المسلمين.

مقصدي؛ أهزوجة تحالف "المهاجرين" السوريين و"الأنصار" الأتراك قاب قوسين أو أدنى من لفظ أنفاسها الأخيرة، وباتت الحال أشبه بالقول الشعبي السوري الدارج "راحت السكرة، وأجت الفكرة". ... الغريب واللافت أنّه إذا أجرينا بحثاً في ما أنتجته مراكز البحوث والدراسات التابعة للمعارضة السوريّة، طوال العقد المنصرم، ربّما لن نعثر على دراسة أو بحث استراتيجيّين موضوعيّين، يتناولان بالرصد والتحليل احتمالات عودة العلاقات السوريّة – التركيّة إلى سابق مجاريها وعهدها، والتحسّب والتحوّط لها، ووضع خطط وحلول لما قد يترتّب أو ينجم عن ذلك من نتائج، أو كوارث تلحق الضرر بمصالح اللاجئين السوريين.

البسطاء والسذَّج وحدهم يمكنهم لوم تركيا على إعادتها مياه العلاقة مع نظام الأسد إلى مجاريها. ذلك أنّه من الجنون والعبث أن تبقى أنقرة على عداوة مع نظام الأسد، في حين أن الدول العربيّة وجامعة الدول العربيّة والمجتمع الدولي يتعامل مع هذا النظام بوصفه النظام الشرعي. وإذا كانت تركيا محافظة على علاقاتها مع إسرائيل، أميركا، إيران، العراق...، فهل من المنطق والعقل ومقتضيات المصلحة الوطنيّة والسياسيّة والاقتصاديّة التركيّة العليا... أن تبقى على عداوة أبديّة مع نظام الأسد؟! وهل المعارضة السوريّة (الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية) والجماعات المسلّحة، قادرة على منح تركيا أضعاف ما سيمنحه نظام الأسد لأنقرة، حتّى تفكّر الأخيرة بالمحافظة على علاقاتها الوطيدة مع هذه المعارضة البائسة؟

الأكثر إلحاحاً على الاعتراف والإقرار به هو القول: من المؤسف أنّ المعارضة السوريّة فشلت في إقناع العرب، وفي إقناع المجتمع الدولي، وفي إقناع الداعم الرئيس تركيا، لتكون بديلاً ديمقراطيّاً مدنيّاً علمانيّاً ناجعاً عن النظام السوري، الطائفي الأمني، العسكريتاري، المليشياوي. لقد أثبتت المعارضة أنّها الوجه الآخر لنظام الأسد، لجهة الطائفيّة والفساد والإفساد، وبؤس الإدارة، وأثبت فشلها الذريع بامتياز، مع "مرتبة الشرف"! وعليه، منذ بداية إرهاصات التقارب التركي – المصري كان على المعارضة السوريّة أن تتدارك أوضاعها بسرعة، ومحاولة تقديم بديل مقنع للسوريين والعرب والأتراك والعالم. وهذا ما لم يحصل البتّة، ما وضع العالم بين خياري السيئ والأكثر سوءاً، فاختار نظام الأسد باعتباره الخيار الأوّل.

فشلت "قسد" و"الإدارة الذاتيّة" في استثمار الدعم المهول لتثبيت حقوق الكرد في سورية، وتقديم أنموذج إداري معتدل منفتح مرن قابل للتطوّر والتعويل عليه

ذلك الذعر والهلع الذي نراه في أوساط المعارضة السوريّة، ومحاولات التطمين الكاذبة والوهميّة والتعويل على شعارات "المهاجرين والأنصار"، و"الثورة مستمرّة ولم تنتهِ"...، لحالة الذعر تلك ما يماثلها وربّما يتجاوزها في أوساط ما تُسمّى "الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة" الأوجلانيّة – القنديليّة الهوى والميل والتبعيّة. شيء يشبه الهستيريا السياسيّة موجود في إعلام حزب العمال الكردستاني وأفرعه وأذرعه في مناطق "روجافا" أو شرق الفرات. هؤلاء القوم البائسون هم الوجه الآخر للقوم البائسين في المعارضة السوريّة المذكورين آنفاً.

إدارة أو سلطة أو دكتاتوريّة حزب العمال الكردستاني التي تدير "الإدارة الذاتيّة" وقوات سوريا الديمقراطيّة (قسد) أيضاً فشلت فشلاً ذريعاً وقبيحاً في تقديم نموذج الحكم الرشيد والإدارة الجامعة التي يمكن البناء عليها، لتكون بديلاً عما كان نظام الأسد الأب والابن يقدمه لأبناء المنطقة. هذه الإدارة التي تحسب زوراً وبهتاناً أنّها كرديّة، وانفصاليّة، وذاتيّة، وديمقراطيّة، تعدديّة علمانيّة...، المواطنون الكرد والعرب والسريان الذين يعيشون تحت نير سلطتها صاروا يترحّمون على أيّام الأسد الأب والابن.

... الإدارة الأميركيّة، رغم أنّها تحمي إدارة "العمّال الكردستاني" في شرق الفرات لا تعترف بفشلها في فصل هذه الإدارة عن الحزب القنديلي وأذرعه. نعم، فشلت واشنطن في فصل "قسد" عن الحزب، بالرغم من أنّ "قسد" مشروع أميركي مدعوم من بعض دول الخليج ومصر، ليس حبّاً في الكرد، بل كرهاً في تركيا الأردوغانيّة. وها هي ذي الدول تسير بخطى حثيثة لتطبيع الأوضاع مع أنقرة، وفشلت "قسد" و"الإدارة الذاتيّة" في استثمار ذلك الدعم المهول لتثبيت حقوق الكرد في سورية، وتقديم أنموذج إداري معتدل منفتح مرن قابل للتطوّر والتعويل عليه، ويمكن الدفاع عنه.

لا يمكن لأحد أن يلوم تركيا التي خرجت رابحة من كل الفشل الذي أنجزه نظام الأسد ومعارضته

كما نجح الحزب الأوجلاني التركي، عبر استفزازاته السياسيّة والعسكريّة والإعلاميّة، في تقديم كل المبرّرات العسكريّة والسياسيّة والإعلاميّة المشروعة لتركيا، كي تجتاح مناطق عفرين، رأس العين، تل أبيض، وتبقى تهدد المتبقّي من "روجافا". وربّما لا يمكن معاتبة قيادة "الكردستاني" من كرد تركيا، المرتبطين، بشكل آو بآخر، بالدولة العميقة في تركيا، لكن العتب على العناصر والقيادات الكرديّة السوريّة داخل حزب العمال الكردستاني، الذين يعبدونه، ويطيعونه طاعة عمياء تتجاوز طاعة عناصر الجماعات الجهاديّة أمراءهم. هؤلاء الكرد السوريون البائسون لا يتحسّبون لتلك اللحظة التي ربّما يتوصّل فيها "الكردستاني" إلى حلّ نهائي مع تركيا، آنئذ ماذا سيكون مصير الكرد السوريين المنخرطين في الحزب الأوجلاني القنديلي؟ هل سيبقون في الجبال؟ ولماذا؟ ذلك أنّهم ليسوا مواطنين أتراك حتّى يسلّموا أنفسهم للسلطات التركيّة ويعودوا إلى بلادهم!

غالب الظنّ أنّنا على مقربة من عقد اتفاقية "أضنة 2"، بين تركيا وسورية. ومثلما تخلّى نظام حافظ الأسد في اتفاقيّة أضنة الأمنيّة في أكتوبر/ تشرين الأول 1998 عن لواء إسكندرون نهائيّاً لتركيا، كذلك في أيّ اتفاقيّة جديدة، سيتخلّى نظام الأسد عن مناطق عفرين ورأس العين وتل أبيض لتركيا ويبقى الأسد محافظاً على كرسيه وحماية نفسه وأركان نظامه من المحاكم الدوليّة. وفي حال حدوث ذلك، لا يمكن لأحد أن يلوم تركيا التي خرجت رابحة من كل الفشل الذي أنجزه نظام الأسد ومعارضته.

لقد جعل "العمّال الكردستاني" من الكرد السوريين مقاتلين تحت الطلب، للقتال بدلاً من الجيش الأميركي في الحرب على مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، من جهة، ولخدمة نظام الأسد، من جهة أخرى. كذلك جعلت تركيا من السوريين مقاتلين تحت الطلب للقتال في حروب بالوكالة عن تركيا، خارج حدودها. المعارضة السوريّة تتحكّم بها الدولة الرسميّة العلنيّة في تركيا. أمراء الحرب في المعارضة السوريّة (الائتلاف وفصائله المسلّحة) وفي "الإدارة الذاتيّة" و"قسد" لهؤلاء منافذ هروبهم وملاذاتهم الآمنة. سينجح هؤلاء في تهريب (وتأمين) أموالهم وأولادهم إلى تلك الملاذات. والخسارة الماديّة والمعنويّة الكبرى لاحقة لا محالة بأولئك السوريين المخدوعين بتلك الكيانات السياسيّة البائسة الفاشلة التي أتلفت المجتمع السوري، وألحقت به أفدح الأضرار والتمزّقات أفقيّاً وعموديّاً. وفي حال جرى إيجاد حل نهائي للمسألة السوريّة، بديهي أن أمراء الحرب في النظام والمعارضة سيتصدّرون المشهد مجدّداً، كما جرت العادة في لبنان والعراق وأماكن أخرى، وتعاود طاحونة شعارات المتاجرة بدماء السوريين دورانها.