لا شيء تغيَّر في المشهد السياسي المغربي
كشفت الانتخابات المغربية التي انتظمت في 8 سبتمبر/ أيلول الماضي جملةً من المعطيات التي ستكون لها آثارها في البنية العامة للنظام السياسي المغربي، بمختلف مكوِّناته، دولةً وأحزاباً ونقاباتٍ وتنظيماتٍ مدنية. نحن هنا لا نُوَجِّهُ نظرنا صوب الأحزاب التي نَفَضَ الناخب يده منها، ولا صوب الأحزاب التي احتلّت الصفوف الأولى في ترتيب نتائج الاستحقاقات التشريعية والجماعية والجهوية، ذلك أن المتابعين للشأن السياسي المغربي يعرفون جيداً من خلال السياسات والمواقف والمعارك التي مُورِست زمن قيادة حزب العدالة والتنمية الأغلبية الحكومية من 2011 إلى 2021، ساهمت في التهييء لنهاية الحزب، وأن تقاليد البسملة التي عَمَّمها في الإعلام وفي مواقع التواصل الاجتماعي تقترب من إكمال دورتها الزمنية المرسومة بعناية ودقة.
معطيات عديدة حصلت في التاريخ الثقافي والسياسي المغربي منذ الاستقلال في 1956، وساهمت تجارب الأحزاب الوطنية الأكثر تعبيراً عن تحوُّلات المجتمع المغربي، كما ساهمت الثقافة المغربية الجديدة في ترسيخ قيمٍ كثيرة، وبدأ الجميع يدعو إلى ضرورة إغلاق فاصل الشعبوية الدينية، وأوهام الزعامات الكاشفة لكثير من صور البؤس في مشهدنا السياسي، وكثير من العجز في القول والعمل.. إضافة إلى ما يمكن أن يلمسه الملاحظ من تكرار الأخطاء في تجربة التناوب التوافقي سنوات 1998-2007، حيث يسود الاهتمام بتوسيع المكاسب المرتبطة بشهوة السلطة وإغفال الحزب والمجتمع، وحيث تسود حسابات المواقع بين إخوان الأمس، فيمهّدون بأنفسهم لتوسيع التناقضات الناتجة عن صور استخدامهم في تمرير مواقف كانوا يدافعون عن نقيضها (زراعة القنّب الهندي، التوقيع على معاهدة التطبيع .. إلخ)، ويحرص الجميع على مواصلة المحافظة على المواقف نفسها بمبرِّرات واهية.
لا ينبغي أن نغفل، إضافةً إلى كل ما سبق، رغبة النظام السياسي القائم في تجديد البنيات الحزبية، وذلك بعد فعل التآكل والانقسام الذي لَحِق الأحزاب الوطنية الكبرى، ولأن حزب العدالة والتنمية كشف، خلال العشر سنوات التي تَحمَّل فيها المسؤولية الحكومية، أنه بدون مشروع مجتمعي، ولا أفق تاريخي قادرٍ على مُواكبة التحوُّلات الجديدة في المغرب وفي العالم، حزب يمشي الخيلاء، معتقداً أنه ينطق حكمةً وسياسة، وأغلب قادته يتفوهون بقفشاتٍ وحكاياتٍ لا علاقة لها بكل ما يجري في المجتمع المغربي، ولا علاقة لها بالتحدّيات التي تُوَاجِهُهُ في الداخل والخارج.
أصبحت الكلمة اليوم للأعيان ولأخلاق الترحال من حزب إلى آخر، وقد أصبحت فضيلةً وحسنَ تدبيرٍ، بحثاً عن الفوز بمقاعد في المجالس المنتخبة
انتبه المراقب السياسي المتابع للانتخابات أن الاستعدادات الكبرى التي جرت قبل موعد الانتخابات تمثلت أساساً في لجوء أغلبية الأحزاب لفئة الأعيان لضمان مقاعد، وذلك على حساب باقي المكوِّنات الأخرى للأحزاب. وقد ساهم اتساع دائرة الأعيان في المجتمع وتنوُّع أدوارهم ومجالات عملهم في الالتقاء بعينة كبيرة منهم، رجال الأعمال وكبار المُلَّاك، وأصحاب المقاولات الكبرى والمتوسطة، وشيوخ القبائل في البوادي المغربية، ومسؤولي الفرق الرياضية والفنية، وكبار الشخصيات في مجال الصناعة والتجارة.. حيث حَرصَت أغلبية الأحزاب على ترشيح أفراد منهم وتزكيتهم، بل أكثر من ذلك وجدنا في حوارات سياسية كثيرة أنجزت مع بعض الأمناء العامين للأحزاب قبل الانتخابات، إشارات إيجابية على مكانة الأعيان وأدوارهم في المجتمع، وكذا أهمية انخراطهم ودمجهم في المؤسسات السياسية المنتخبة.. وعلى الرغم من أن هذه المسألة تحصل عادة في أغلب الاستحقاقات التي عرفها المغرب، إلا أن المتغيرات التي لحقت منظومة الأحزاب في السنوات الأخيرة حوَّلتها إلى ظاهرة عامة ومشتركة بين مختلف الأحزاب.
لم تعرف النقاشات التي واكبت عملية الإعداد للانتخابات أي تطوير لبرامج الأحزاب، والسجالات التي ملأت وسائل التواصل الاجتماعي، تَمَّ التركيز فيها على نقد استخدام المال، كما تَمَّ التركيز في الاستحقاقين السابقين على نقد استخدام الدين والشعبوية الدينية، وبدا كأن النقاش الدائر في فضاءات التواصل يتّجه إلى إنهاء أمرٍ مرتَّب، مثلما حصل في استحقاقات 2011 و2016، فلم يساهم، كما كان المغاربة ينتظرون، في تطوير آليات الانتقال الديمقراطي في بلادهم. أصبحت الكلمة اليوم للأعيان ولأخلاق الترحال من حزب إلى آخر، وقد أصبحت فضيلةً وحسنَ تدبيرٍ، بحثاً عن الفوز بمقاعد في المجالس المنتخبة.. أما الجمعيات السلفية التي تلتقي مع بعض دعاوى حزب العدالة والتنمية، فقد استشعرت، مثل غيرها، الأخطاء الكبيرة المرتكبة في فترتي ولايته، ولم تمنحه أصواتها. وينطبق الأمر نفسه على الجمعيات الدعوية التابعة له، والتي انشغلت بتدبير الانقسامات التي انتقلت إليها من الحزب ومن التيارات المتنافرة داخله، بحثاً عن زعاماتٍ وهميةٍ في فضاءات السياسة والمنافع السريعة، وتناسى الحزب الأغلبي السابق، كما تناست الجمعيات الدعوية والخيرية المتصلة به، أن أوهامه في التنظيم المُحْكَم وإعلانه الدائم "الطهرانية وأخلاق الزهد"، لم تستطع الصمود أمام إغراءات المناصب والتعويضات والتقاعدات، وهي إغراءاتٌ أنسته شعاراته ومواقفه التي تغنَّى بها سنوات المعارضة.
كشف حزب العدالة والتنمية، خلال العشر سنوات التي تَحمَّل فيها المسؤولية الحكومية، أنه بدون مشروع مجتمعي
أنهت انتخابات 8 سبتمبر فاصلَ الحزب الذي اعتقد أنه الحل، وأنه وحدَه القادر على فك عقدة الانتقال الديمقراطي، "والقضاء المبرم على الاستبداد والفساد"، إلا أنه انشغل طيلة عقد بشعار "الإصلاح في ضوء الاستقرار"، معتبراً أنه عنوان استقرار مجتمعٍ ونظام، ولم ينتبه إلى أن التعثر الذي حصل لحظة تكليفه باقتراح الحكومة في الولاية الثانية سنة 2016 يعود إلى أخطائه المتمثلة في التضخم الزائد الذي بدأ يلازمه، فانقسم الحزب وأصبح برأسين، أحدهما يظهر ويختفي.. هذا في وقتٍ كان الجميع يعرف أن مظهر قوة الحزب يعود أساساً إلى التراجعات الحاصلة في بنية اليسار المغربي.
لنعد إلى الانتخابات ونتائجها، ونفكّر في الأغلبية الجديدة التي يجري الإعداد لها، ونتساءل، في سياق الدورة السياسية الجديدة، عن الخيارات التي سترسم في السياسات العامة، خصوصاً ونحن أمام مشروع تنموي جديد، أعدَّته لجنة خاصة، وساهمت الأحزاب مجتمعة في بناء مفاصله الكبرى، وهي مطالبةٌ اليوم، بعد إغلاق فاصل الإسلام السياسي، بالتفكير في التنمية والتقدّم ومواجهة تحدّيات الراهن المغربي، بعد عشر سنوات من التدريب على الحداثة المعكوسة، والضجيج الذي لم يُنتج سوى التراجعات والخيبات.. فهل تستطيع الأغلبية الجديدة بناء مشهد سياسي جديد؟ وقبل الإجابة، نتصوَّر أنه لا شيء تغيَّر اليوم في مشهد المغرب السياسي.