لا حاجة لقمّةٍ عربيةٍ بل لأوراق ضغطٍ مُتاحة
تتواصل المظاهرات والوقفات الشعبية، عبر مدن وعواصم عربية عديدة، تنديدا بالعدوان الإسرائيلي الغاشم المستمرّ على قطاع غزّة. ولا تخلو عديد من تلك المظاهرات من رسائل متباينة إلى الأنظمة العربية الحاكمة، فلا يمكن للعين أن تخطئ، مثلا، الشعارات المناهضة للتطبيع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي في المغرب، أو المطالبة بقطع العلاقات الدبلوماسية معها في الأردن، أو الداعمة للموقف المصري الرسمي الرافض تهجير فلسطينيي قطاع غزّة إلى صحراء سيناء. ولا تخلو جل المظاهرات تقريبًا من التعبير عن غضبٍ شعبيٍّ من المواقف العربية الرسمية مما يجري، باستثناء، بطبيعة الحال، البلدان التي لا تزال صامدة في وجه موجة التطبيع مع دولة الاحتلال. ولم تكن ثمّة دعوات شعبية إلى قمّة عربية في جامعة الدول العربية، طارئة أو غيرها؛ فقد بات لدى الشارع العربي ما يشبه اليقين بأن مخرجات القمم العربية معروفة سلفًا، ومن ثم فإن انعقادها مثل عدمه، بل إن انعقادها، وهي لا تعكس موقف الشعوب، لا يفعل شيئا غير مزيدٍ من استفزاز الشارع العربي. ولكن، هل يعفي هذا قمّة جامعة الدول العربية من خطيئة عدم الانعقاد على نحو طارئ إثر عملية طوفان الأقصى وما تلاها من عدوان إسرائيلي غير مسبوق على قطاع غزّة؟ الجواب كلا! ويبدو أن اجتماع مجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية، في 11 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري كان أقصى ما يمكن للجامعة القيام به. ولم يعكس القرار الصادر عن الاجتماع خذلانا صريحا للمقاومة الفلسطينية فحسب، بل تماهيًا مع التيار السائد في الخطاب الغربي، بمساواة الاحتلال الإسرائيلي بالمقاومة الفلسطينية، ومن ثم مساواة المجرم بالضحية. لقد حمل قرار مجلس جامعة الدول العربية، عمليًا، إدانةً ضمنيةً لعملية طوفان الأقصى.
منتصف الأسبوع الماضي، دعا الرئيس المصري عبد الفتاح السياسي إلى عقد قمة دولية للسلام في القاهرة. وجرى التحضير لها على عجل، لتنعقد السبت الماضي (21 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، بمشاركة 31 دولة. ولم يصدر عنها بيان مشترك، كما هو معروف، بسبب إصرار الدول الغربية الداعمة لدولة الاحتلال على إدراج ما يفيد إدانة المقاومة الفلسطينية والإقرار بـ"حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها". وفشل القمّة في إصدار بيان مشترك في حد ذاته مؤشّر إيجابي إلى صمود الموقف العربي الرسمي في وجه موجة الدعم الغربي العارم للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزّة. لكنه بالتأكيد غير كافٍ، ولا ينبغي النظر إليه أنه إنجاز.
كأن الفلسطينيين مرابطون في أمان على أعتاب الحدود المصرية الفلسطينية، والعالم يضغط من أجل تهجيرهم إلى الأراضي المصرية
لم تشارك في قمّة القاهرة تونس والجزائر، وغادر أمير قطر جلسات القمة قبل اختتامها ومن دون أن يلقي كلمة رسمية. ورغم عدم صدور بيانات رسمية عن تونس والجزائر (تشرح أسباب المقاطعة)، وعن قطر (تشرح أسباب مغادرة أمير البلاد)، إلا أن ذلك يعبر عن مواقف سياسية في نهاية المطاف، ومن ثم يعبّر عن غياب توافق عربي على رؤية مشتركة للموقف العربي. وهذه سمة مشتركة بين قمّة القاهرة للسلام وقمم جامعة الدول العربية. وقد رأينا تحفّظات دول عربية (منها تونس والجزائر أيضا) على بيان الاجتماع الوزاري لمجلس جامعة الدول العربية. لكن هذه ليست السمة المشتركة الوحيدة، فاستغلال مصر القمّة من أجل التشديد على موقفها (ومواقف دول عربية أخرى) من مسألة تهجير فلسطينيي غزّة إلى سيناء، فضلا عن استغلالها إعلاميًا من نظام الدولة المضيفة لاستعادة شرعية شعبية آخذة في التدنّي، سمةٌ أخرى اشتركت فيها قمّة القاهرة للسلام وقمم جامعة الدولة العربية. وهنا، انحرفت الأضواء بعيدًا عن بؤرة التركيز التي ينبغي أن تتكثّف حولها، وبدلا من أن تكون بؤرة التركيز العدوان الوحشي على سكّان غزّة، تحولت إلى التشديد على رفض سياسة التهجير؛ وكأن الفلسطينيين مرابطون في أمان على أعتاب الحدود المصرية الفلسطينية، والعالم يضغط من أجل تهجيرهم إلى الأراضي المصرية، وما على النظام المصري الحاكم سوى جمع قادة العالم ليقول لهم: لا للتهجير! أبعد من ذلك، قرأنا عناوين و"تحليلات"، مصرية بالأساس، تشيد بمصر، ورئيسها، وتقول إن انعقاد القمّة دلالة على قوة مصر الإقليمية ومكانتها الدولية.
نفتح قوسًا هنا. حين قال الرئيس السيسي مقولته، التي باتت شهيرة، "إذا كانت ثمة فكرة للتهجير، فهناك صحراء النقب في إسرائيل"، طالَعتنا تبريراتٌ غريبة تفيد بأنه قالها "ساخرًا" "متهكمًا" من الفكرة في حد ذاتها. لكن البيان المصري، الذي تلاه الرئيس السيسي في اختتام قمّة القاهرة للسلام، أعاد المقولة نفسها لكن بعبارة أخرى: "تصفية القضية الفلسطينية دون حلٍّ عادلٍ لن يحدُث، وفي كل الأحوال لن يحدُث على حساب مصر أبدًا". وكأنه يقول بلسان الحال: نحن ضد تصفية القضية الفلسطينية، وهي في المقاربة المصرية تهجير فلسطينيي غزّة إلى صحراء سيناء؛ أما إذا كان ولا بد أن تُصفَّى (أي لا بد من تهجيرهم)، فلن يكون ذلك بتهجيرهم إلى الأراضي المصرية. من حقّ مصر، وغيرها، بل من واجبها، التشديد على رفض التلويح بخيار التهجير، لكن من واجبها وواجب كل الدول العربية أن تعيد النظر في ترتيب الأولويات، وأن تكون أولوية الأولويات حرب الإبادة والتطهير التي تشنّها دولة الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزّة، وإدخال المساعدات الكافية فورا إلى سكّان القطاع. وبالمنطق الاستراتيجي، هذا العدوان غير المسبوق مقدّمة لفرض التهجير في النهاية؛ وعليه، فإن إجهاض سياسة التهجير يقتضي وقف العدوان أولا وقبل كل شيء.
ثبت أن الضغط على ما يسمّى المجتمع الدولي، ليضغط على دولة الاحتلال من أجل وقف العدوان، لم يؤت أكله
لم يكن متوقّعًا من قمّة القاهرة للسلام أيُّ تقدم على مستوى وقف العدوان الإسرائيلي على سكان قطاع غزّة، ولا حتى الضغط على دولة الاحتلال لتسمح بدخول المساعدات الإنسانية إلى القطاع. وهذه خطواتٌ على الأرض لا تتعلق ببيانات الإدانة، التي يصرّ عليها الخطاب الرسمي العربي، وكأن مآسي الفلسطينيين ستنتهي بمجرّد الإدانة. والمؤلم في الموضوع برمّته أن ذلك كله غير متوقع أيضا من أي قمّة لجامعة الدول العربية. إلى لحظة كتابة هذه السطور، لا يبدو أن ثمّة نية لعقد اجتماع للجامعة على مستوى القمّة. ويبدو أن ذلك لن يكون مفيدًا، ولا ملائمًا، ولن يكون لها أثر سوى استفزاز المشاعر العربية، والفلسطينية قبل كل شيء، فهي ستأتي متأخّرة وستكون شكلية للغاية، منتهاها إلقاء الخطب والتقاط الصور.
ما المنتظر إذًا ممن يمسكون بزمام السلطة في الدول العربية؟ المطلوب قمم مصغّرة تجمع قادة الدول العربية المؤثّرة (لن نسمّيها هنا، فجلها كذلك)، بما فيها المعنيّة مباشرة بقضية التهجير والمهمومةُ بها. المنتظر أن تكون هذه القمم مكوكية، كما يقال إعلاميًا (وبالمناسبة، المكوكي في اللغة العربية من الفعل مكَّك عليه، أي ألحّ عليه الطلب. وهذا تحديدًا هو المطلوب، الإلحاح في الطلب)، وتنجم عنها بيانات وتهديدات واضحة وحادّة تقطع مع لغة الخطاب السائد الآن ومصطلحاته؛ والمنتظر أن تكون أيضا أقلّ التزامًا بالبروتوكول السائد (مثل القاعات الكبيرة والأثاث الفاخر وغيرها).
لقد ثبت أن الضغط على ما يسمّى المجتمع الدولي، ليضغط على دولة الاحتلال من أجل وقف العدوان، لم يؤت أكله؛ وإخفاق مجلس الأمن في إصدار قرار ذي صلة دليلٌ على ذلك، وما زالت الولايات المتحدة، التي تدعم العدوان الإسرائيلي دعما غير مشروط، تعمل على استصدار قرار يقر بـ"حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها". ويا للأسف، لا يبدو أن العدوان سيتوقف قريبًا من دون تغيير الولايات المتحدة موقفها. وعليه، المنتظر من القمم العربية المصغّرة وضع الخلافات العربية ـ العربية جانبًا، وتنسيق المواقف بشأن مسألتين أساسيتين: الاستمرار في الضغط على المجتمع الدولي لحمل دولة الاحتلال على وقف الحرب الهمجية على سكّان قطاع غزة، والعمل المشترك على "فرض" إدخال المساعدات العاجلة، الطبية والغذائية، إلى القطاع.
يعتصر قلب المرء غيظٌ شديدٌ، في ظروف غزة العصيبة، وهو يستبعد لجوء دولٍ عربية لاستعمال أوراق ضغط كثيرة، وهي متاحة على الطاولة
يمكن للدول العربية المؤثرة إقليميًا "فرض" إدخال المساعدات، ولا يُعقل انتظار موافقة دولة الاحتلال، كما لا يُعقل الخضوع لشروطها، بما في ذلك تحديد كمّيتها ونوعيتها والمناطق التي تصل إليها (ولا تتحمّل مصر وحدها المسؤولية عن ذلك). ومن البلادة انتظار تحرّك الولايات المتحدة أو المنظّمات الدولية لتيسير دخول المساعدات إلى مدنيين تحت حصار وحربٍ لم يسبق لها مثيل. على قادة الدول العربية أن يعملوا على تنسيق المواقف من أجل فرض إدخال المساعدات عاجلا غير آجل، وبذل كل الأسباب الممكنة، بما في ذلك الإبقاء على خيار إدخال القوافل مكلّلة ليس بأعلام الأمم المتحدة فحسب، بل بأعلام الدول العربية. ومن المستبعد أن تجرؤ دولة الاحتلال، ولا الولايات المتحدة من خلفها (لأسباب عديدة لا مجال لحصرها هنا)، على استهداف هذه القوافل وإقحام نفسها في حرب إقليمية، وهي التي تخشى فقط من توسّع "رقعة الحرب" على حدودها الشمالية مع حزب الله (وهو ليس دولةً ولا جيشًا).
يعتصر قلبَ المرء غيظٌ شديدٌ، في هذه الظروف العصيبة، وهو يستبعد لجوء دولٍ عربية لاستعمال أوراق ضغط كثيرة، وهي متاحة على الطاولة ولن تجتهد في اختلاقها، أقصاها أن تهدّد دول عربية مؤثرة إقليميًا بحماية قوافل المساعدات الإنسانية عسكريًا، خصوصا في ظل إصرارها على مسائل عديدة، مثل التمسّك بخيار السلام الاستراتيجي بديلا عن الخيار العسكري، أو النأي بنفسها عن مسؤوليتها القومية والأخلاقية وتسليم قطاع غزّة بين أيدي دولة الاحتلال الإسرائيلي تحت عنوان "القوة القائمة بالاحتلال"، أو التزام بعضها بعلاقاتها الدبلوماسية مع دولة الاحتلال. لكن، ثمّة كثير مما يمكنها القيام به ما دون الخيار العسكري أو التهديد به. وهكذا فقط يمكن للدول العربية استعادة هيبتها الإقليمية والدولية، بالتصرّف فورًا وبحزم، لا بإصدار البيانات وعقد القمم الشكلية. ويستغرب المرء، أخيرًا، كيف تغفَل الأنظمة الحاكمة العربية عن الفرصة السانحة التي يوفّرها التصرّف الجاد والحادّ في هذه الظروف العصيبة لترميم ما يمكنها ترميمُه في علاقتها بشعوبها التي ما فتئت تتأكل.