لا ثوب للضحيّة
في الحرب، إما أن تكون مقاتلًا أو ضحية... هذا ما برهنت عليه صورة المعتقلين الفلسطينيين المقتادين من إحدى مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في غزّة، التي تخاطفتها عدسات كاميرات عبرية وعربية، وكان لكلّ طرفٍ روايته عنها. فقد زعمت الأولى أنهم مقاتلون مستسلمون، وكذّبت الثانية رواية الأولى، وذهبت إلى أنهم محضُ نازحين أبرياء وجدوا في المدرسة مأوىً لهم بعد تدمير بيوتهم.
وعلى الرغم من أن الرواية الثانية هي الأصدق، غير أنني كنتُ أتمنّى لو كان نصف الرواية العبرية هو الأصدق. أعني أنني كنت أحبّذ أن يكونوا مقاتلين، لكن غير مستسلمين، لأن الاستسلام ليس من شيم المقاومين في غزّة، وهذا ما يجعلهم "أبرياء" في نظر العالم، أو "ضحايا" يستحقّون التعاطف.
هل انتهى كل شيء، إذن؟ ليس بعد، فثمّة مراجعاتٌ لا بدّ منها، على خلاف الذين يرفضون المراجعات السياسية خلال الحروب، لكنها ضرورية، أحيانًا، لإعادة توجيه البوصلة إلى الوجهة الصائبة، تفاديًا للانحراف والمتاهة؛ وإلا فإن الحرب التي بدأت بأهداف معينة ستفضي، حتمًا، إلى نهايات أخرى.
باختصار، تلك الصورة التي بدا فيها "الضحايا" عُراة يقتعدون التراب، وينتظرون مصيرًا مجهولًا، لم تستثر لديّ أزيد من مشاعر الأسف، والأسى، لكنها لم تحرّك أحاسيس التعاطف مع "الضحية"، لأن هذه الحرب المستعرة في غزة اليوم قرارٌ فلسطيني بحت، أعلنها وجرّدها مقاومون في 7 أكتوبر، ولم تكن قرارًا من الخصم. ومن يبدأ الحرب فلا يجوز وصفه بـ"الضحية"، حتى وإن هزم فيها، فالحربُ قرارُه، وعليه أن يتحمّل تبعاتها بكرامةٍ ولغةٍ قويةٍ لا تقبل الذلّ والرضوخ، بعيدًا عن المناشدات، والاستغاثات، ومخاطبة الضمير العالمي بأجهزته الأممية، ومؤسساته الحقوقية. وأرجّح أن "حماس" وفصائل المقاومة الأخرى كانت تقدّر جيدًا ردّة فعل العدوّ، وإلا فستكون قد وضعت نفسها وشعبها في ورطة فادحة.
أهمّ ما في هذه الحرب أن الفعل كان فلسطينيًّا، وردّة الفعل صهيونية. صحيحٌ أن أصل الفعل كان احتلالًا، غير أن إسرائيل خرجت من ثوب الجلاد منذ تمكّنت من فرض سيطرتها على الأرض بمباركةٍ دوليةٍ وعربية، وارتدت، في المقابل، ثوب الضحية المهدّدة، دومًا، من "الأغيار" و"الجار"... ولم تكن تبحث عن "تعاطفٍ" مجرّد، بل عن ترجمةٍ له بكلّ صنوف الدعم السياسي والعسكري. وفي مقابل ذلك، كانت الضحية الحقيقية (الفلسطينية) لا تتلقّى من الدعم غير "الخيمة"، و"المخيّم"، وزيت السمك، وما يبقيها على قيد الشهيق والزفير فقط.
والحال، أن جزءًا كبيرًا من الفلسطينيين استكان إلى دور "الضحية" لأسبابٍ شتّى، أبسطها أن الحيّز المحيط كله كان يرتدي ثوب "الضحية"، أيضًا، ولا سيما بعد نكسة 1967، وبدل أن تكون ردّة الفعل البحث عن الثأر، إنقاذًا لماء الوجه، أمعن حكّام العرب في ارتداء مزيدٍ من أثواب الضحية، وإظهار العجز عن مقارعة إسرائيل، وجنحوا إلى "السلام" في أوج هزائمهم، في محاولة منهم لمواراة استسلامهم وخضوعهم، بل ذهبوا حدّ التواطؤ لإجهاض شعلة المقاومة الفلسطينية الوحيدة، ممثلة بمنظمة التحرير، بكلّ أشكال الترغيب والترهيب، مرورًا بتجريدها من ثوب "المقاتل"، في أوسلو وما بعدها، وصولًا إلى إلباسها ثوب "الضحية" في زمن "السلطة"، التي ذهب رئيسها إلى حدّ توسّل "الحماية" من المجتمع الدولي.
أمّا غزة فجاءت استثناءً هذه المرة، بمقاتليها الذين رفضوا ارتداء ثوب "الضحية"، وقرّروا المبادرة لإخراج شعبهم من هذا الثوب المقيت. أرادوا الفعل لا ردّة الفعل، وطلبوا من الشعب أن ينفض عنه مفردات النواح والعويل واللطم، وقالوا لمن يتردّد بارتداء ثوب المقاتل، إن مصيره سيكون العري الكامل؛ لأن ثوب الضحيّة لا يستر ولا يحمي، بل على العكس سيكون لقمة سائغة للفتك واقتراف المجازر بحقّه، وسيكون أداة للهو والعبث بأيدي جنود الخصم، الذين سيقتادونه كالقطيع، ويُظهرونه أمام الكاميرات على الصورة التي يشاؤونها، باستثناء صورة "المقاتل" التي لا يصنعها غير المقاتل وحده.