لا تقاوم لكي يمنحونا الذهب
"ما تقاومش".. هكذا لخّص الإعلامي إبراهيم عيسى رؤية محور الصهاينة العرب منذ الأيام الأولى لعملية طوفان الأقصى، إزاء الصراع العربي الإسرائيلي عامة، وحرب إبادة غزّة الجارية خصوصا. ربما لو حكى أحدهم أن كاتبا أو إعلاميا من المصريين أو العرب أصحاب السوابق الخطابية في دعم المقاومة الفلسطينية وحزب الله في حربه مع إسرائيل، بل وجماعة الإخوان المسلمين بوصفهم فصيلا وطنيا معارضا مضطهدا، وقف أمام الشاشات يصرُخ في المقاومة الفلسطينية، مطالبا إياها بالتوقّف عن فعل المقاومة، ومبرّرا ذلك بأن مقاومة إسرائيل نزقٌ وتهوّر، وبأن الاستسلام أفضل وأكثر فائدة، أقول لو أخبرنا أحدُهم بإمكانية حدوث ذلك، لما صدّقنا، ليس إنكارا لإمكانية وجود حلفاء عرب للصهاينة، فهذا موجود، ومسبوقٌ في تواريخنا الحديثة مع الاحتلالات الغربية، ولكن استبعادا لهذه "المباشرة" في تقرير ما يريده صهاينة الداخل العربي. ... "ما تقاومش"، هكذا بوضوح، يتحوّل الاحتلال الإسرائيلي من إكراه إلى هدف في ذاته.
لا شيء نقرأه أو نسمعه في الإعلام الغربي الداعم لإسرائيل، أو إعلام الكيان الصهيوني، بفرعيْه، العبري والعربي، يمكنه أن يتجاوز عبارة عيسى، إنما هي تنويعاتٌ ومعالجاتٌ مختلفة لفكرة واحدة ثابتة لا تتغيّر، لا تقاوم، ولم يبق سوى أن تتحوّل إلى أشعار وأغنيات حماسيةٍ وأعمال فنية تمجد فعل الاستسلام، "لا تقاوِم لكي يمنحوننا الذهب"، فالمقاومة تستهدف إزاحة "كفيل" الأنظمة العربية القائمة، ومن ثم إزاحتهم، والمفارقة أن من "تيمات" الصهاينة العرب المتكرّرة أن مقاومة المحتل فعل ارتزاق من وراء القضية، ومن مصلحة حركة حماس وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية استمرار الحرب، فيما تريد الأنظمة العربية "الشريفة" وقف هذه الحرب من أجل أطفال غزّة.
يُراهن خطاب الصهاينة العرب على ضياع الحقائق التاريخية في زحام التفاصيل الآنية، وهي إحدى سمات التلقّي في عوالم ما بعد الثورة الرقمية والسموات المفتوحة. يُخبرنا تاريخ القضية الفلسطينية أن الإجابة عن سؤال: كيف وصلنا إلى ما نحن فيه؟ هي، بداهة، لأننا تصوّرنا يوما أن ثمّة حلا غير المقاومة، فإذا ما تجاوزنا تواريخ من إخفاقات الحلول التي زعموا أنها "سياسية"، إلى واقعنا، نجد تكثيفا، لا يقلّ وضوحا عن اللافتة الصهيونية "ما تقاومش". ... مثلا، هل كانت الولايات المتحدة يوما وسيطا في الصراع العربي الإسرائيلي؟ إجابة واقعنا، بوضوح، أن الولايات المتحدة طرفٌ لا وسيط، وما الوساطات السابقة سوى أشكال مختلفة من دعم إسرائيل وفق ظروف اللحظة، وحين اختلفت هذه الظروف، وحقّقت المقاومة الفلسطينية ما لم تحقّقه في تاريخها من تهديد "حقيقي" للوجود الإسرائيلي الآمن في بلادنا. اختلف شكل الدعم الأميركي من الوساطة المراوغة إلى الانحياز الواضح، وضوح عبارة عبارة الإعلامي التنويري "ما تقاومش".
يمنحنا واقعنا مزيدا من الإجابات الواضحة عن التطبيع مع الكيان الصهيوني وجدواه، إذ توسّلت الأنظمة العربية منذ شروعها في هذه الجريمة "السياسية" بأن التطبيع مع المحتلّ في مصلحة القضية الفلسطينية، وأن الموقف التفاوضي للبلد العربي المطبّع سوف يكون أقوى، وأكثر نفعا للفلسطينيين. وها نحن قد وصلنا إلى نتيجة اختبار فاعلية التطبيع.. لا أحد يستطيع توصيل زجاجة مياه إلى أطفال غزّة من دون الإذن الإسرائيلي، لا أحد يستطيع ممارسة السيادة الوطنية على أرضه وحدوده ومعابره، لا أحد يستطيع تجاوز حدوده في عبارات الشجب والإدانة، حتى الخطابات الشعبوية التي سمحت بها إسرائيل في الماضي لزوم الاستهلاك المحلي صارت ممنوعةً ومُجرمة. وطبعا، لا أحد يستطيع أو يجرؤ أن يضغط على الحليفة إسرائيل لوقف هولوكست المشافي، ومحرقة الأطفال، وتجويع أهل غزّة، وتهجيرهم قسرا، بل على العكس، تشارك أنظمة التطبيع العربية، في حصار غزّة جغرافيا، وقصفها إعلاميا. إجابات أخرى، لا تقلّ وضوحا عن خطابات الصهاينة العرب، سوف تتحوّل، في القريب، إلى "أثمان" يدفعها الجميع، جرّاء العبث بالقانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان والموقف من جرائم الحرب، وتحويل ذلك كله إلى أدواتٍ استعماريةٍ لخدمة مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل. "رعب أكبر من هذا سوف يجيء".