لا تجهضوا المقاومة

29 يوليو 2014
+ الخط -

التغيير الذي طرأ على لغة تصريحات السلطة الفلسطينية ولهجتها، وخصوصاً دعم محمود عباس شروط المقاومة لوقف إطلاق النار في غزة، جاء دليلاً على أن المقاومة على الأرض تفرض نفسها، وأن تضحيات الشعب الفلسطيني وصموده تسبق القيادات دائماً وأبداً. وجاء التحول بعد إدراك أنه ليست هناك نية دولية، أو رسمية، أو عربية، بدرء الموت عن غزة، أو عن أي جزء من فلسطين، وأن "حسن السلوك" لم ينفع بحماية السلطة نفسها، والأهم أن أمام قيادة السلطة دعم المقاومة، أو مواجهة الغضب، ليس في الشارع فقط، بل بين كوادرها، إن كان في فتح، أو داخل مؤسسات السلطة.

لكن التصريحات، وإن كانت مهمة، لا تكفي. مطلوب، أولاً الثبات عليها، ثم تبني استراتيجية وطنية غير مرهونة لعملية سلام زائف، فبالرغم من كل القيود، هناك مساحة مناورة واسعة، إن بالتحرك نحو محكمة الجنايات الدولية، أو بوقف التنسيق الأمني غير المقدس، فالتحرر من القيود إرادة، لكن حذار، ثم حذار من أن تكون النتيجة إجهاض المقاومة.

ففلسطين، وغزة خصوصاً، تدفع الثمن غالياً وغالياً جداً، فإذا كانت قوات الاحتلال تستهين بحياة الفلسطينيين، فمحظور علينا نحن الاستهانة بها. لذا، على القيادات الفلسطينية أن تكون بحجم تضحية الشعب الفلسطيني، فلا تسمح بإجهاض المقاومة، أو بعدم تحقيق مكاسب على طريق التحرير والتحرر.

تاريخياً، سعت إسرائيل، دائماً، إلى استعمال تفوقها العسكري، وبطشها الوحشي، لكسر الإرادة الفلسطينية، فالمطلوب إسرائيلياً ليس نصراً عسكرياً فحسب، بل نصراً تاريخياً يزرع اليأس وسيلة، لأن تستسلم الأجيال وتنسى، وبالتالي، تتخلى عن حقوقها الشرعية والتاريخية.
تصطدم الاستراتيجية الإسرائيلية، دائماً، بمقاومةٍ، عادة، لا تتوقعها لشدة ثقتها بآلتها العسكرية، والأهم تصطدم بجيل جيد، لم يعش أي هزيمة سابقة، أو خيبة أمل موجعة، فيجدد النضال، ويبعث الأمل في أجيالٍ أنهكتها رحلة التشريد والتشتيت والعذاب، وصدمتها غلبة موازين قوى، تدوس على كل حق أو إنسانية.

في كل انتفاضة فلسطينية، حتى قبل سنوات النكبة، تسعى القوى الصهيونية، ومن يؤيدها، إلى تطويقها وسحقها، حتى لا تتحول المقاومة إلى نصر فلسطيني، بل إلى ثمنٍ يدفعه الفلسطيني بالدم والروح، لاستنزاف الشعب الفلسطيني، وتيئيسه من جدوى مقاومةٍ، أو رفض لشروط الاحتلال، أو بمواصلة نضال وقتال.
في كل مرة يكون العقاب الإسرائيلي أقسى من قبل، فكلما يكتشف القادة الصهاينة نهوض الفينيق الفلسطيني يشتد سعار القتل والتدمير لوأده وللأبد: وهذا هو الجدار العنصري العازل يضيف معاناة يومية، حتى لا يجرؤ الفلسطيني على رفع رأسه، وإلا لا حياة غير جحيم له على الأرض.
فالانتفاضة الثانية أثبتت أن لا اتفاقيات ذل، أو سيطرة عسكرية، أو تنسيق أمني يردع الفلسطيني، وإن شرارة المقاومة معدية، حتى للذين استسلموا يأساً، ما دفع القيادة الإسرائيلية إلى ابتكار سبل جديدة للعقاب الجماعي، خصوصاً بعد انضمام الأجهزة الأمنية الفلسطينية إلى المعركة في حينها، فكان اغتيال ياسر عرفات، وفرض شروط أمنية جديدة، وإلا إطلاق عواصف الموت الإسرائيلية.
لم يكن قبول القيادة الفلسطينية بهذه الشروط خطأ، بل خطيئة، والانقسام الفلسطيني سواء لخلافات أيديولوجية سياسية محقة، او لصراع على سلطة بدون سلطة، سهل المهمة الإسرائيلية التي لا ترى في الشعب الفلسطيني، في الداخل، سوى سكان عليها إحكام السيطرة عليهم، فيما تنهب وتقتل وتدمر السكان والأراضي، فيما تكفلَ الانقسام بتفتيت شعب محاصر.

تفتيت الشعب الفلسطيني وشرذمته ليس مأساة إنسانية فحسب، بل لها هدف سياسي هو تجزئة القضية الفلسطينية، شرطاً لتجزئة القضية، فوحدانية القضية من وحدة الشعب الفلسطيني، وتجزئتها تنهي في الحسابات الإسرائيلية القضية، كقضية شعب وأرض وتاريخ.
فلا عجب أن الحرب على غزة تهدف إلى تقويض حكومة الوفاق الوطني، فحتى، وإن لم ترتق مصالحة حركتي فتح وحماس إلى الوحدة الوطنية المطلوبة، لكنها، مع هذا، تنسف محاولة إسرائيل بتصنيف القيادات الفلسطينية إلى "مقبولة" و"إرهابية"، وتضعف مقولتها إنها في حرب ضد إرهاب إسلامي متطرف، لا يختلف في شكله عن القاعدة وداعش.

نفهم أن تجنيب غزة مزيداً من الويلات هي الأولوية، لكن المطلوب إسرائيلياً تجريد الفلسطينيين من مقاومتهم، وحتى قدرتهم على المقاومة، ووضع شروط جديدة للخضوع الفلسطيني، فحتى رفع الحصار عن غزة لا يمكن مبادلته بقبول فلسطيني بتشريع النيران الإسرائيلية، تطلقها أو توقفها وفقاً لرفض الفلسطيني أو صمته على شروط عبوديته.

لا بد من موقف فلسطيني موحد ومقاوم، لا بد من رفض تجريم المقاومة، إذ وقف إطلاق النار على أساس إجهاض المقاومة هو تمهيد لجولة مجازر جديدة، تطلب إسرائيل من الفلسطينيين تشريعها مسبقاً، فلا تجهضوا المقاومة.