لاجئون ولاجئون والعنصرية في أوروبا
تغذّت الأسماك في البحار من جثث سوريين وأكلت الوحوش أجساد آخرين منهم في غابات أوروبا. أُوسع سوريون ضرباً من شرطة الحدود في دول أوروبا الشرقية، وفي اليونان عانوا وما زالوا الأمرّين. استقبل الأوروبيون اللاجئين الأوكران وكأنّهم أبناء جلدتهم، وأَرسلت ألمانيا القطارات لجلبهم من بولندا؛ وحالما يجتازون الحدود يجدون مئات الأشخاص لتقديم كلّ أشكال المساعدات. شعر السوريون بمرارةٍ كبيرة وهم يشاهدون ذلك، وغير السوريين أيضاً انتابهم ألم شديد؛ عرب ومسلمون منذ عقود في أوروبا الغربية لم يحظوا ببعض من ذلك الترحاب، بل عاينوا أشكالاً من التمييز العنصري في العمل والتعليم وفي الشوارع. التمييز هذا بسبب اللون والعرق والدين. بالغ بعض السوريين، وكردّ فعلٍ على مأساتهم؛ فشعروا بالسعادة من حرب أوكرانيا، فقد تحسّ أوروبا أخيراً بالمأساة السورية، وهناك كتلة سورية كبيرة قالت: لو وقف الغرب ضد روسيا في سورية، لما تجرّأ بوتين على غزو أوكرانيا وجلب المأساة إليها؛ دماراً وقتلاً ولجوءاً وخراباً كبيراً.
توضح المقارنات أعلاه أوجهاً من عنصريةٍ ما في أوروبا. وهناك الاندفاع الأوروبي والأميركي الكبير لمحاصرة روسيا وإمداد أوكرانيا، وإنْ لم يفضِ إلى حظرٍ جويٍّ، وتدرّجت العقوبات كذلك، ولم تصل إلى مقاطعةٍ نهائية لموارد الطاقة، وكذلك ما قاله الرئيس الأوكراني وكرّره، أنّ بلاده تُرِكت وحيدة في فم الدبّ، وهو شعورٌ لطالما أحسّ به السوريون منذ 2011.
العنصرية لم تغادر، ليس أوروبا، بل العالم بأكمله. وفي أوروبا التي استعمرت العالم، كانت أشكال العنصرية أكثر وضوحاً
عادة تلصق تهمة العنصرية بالتيارات اليمينية المتشدّدة في أوروبا، ويُثنى على النظام الأوروبي بأنّه ديمقراطي. والآن يُكتشف وجه جديد، وإنْ من الخطأ الفصل بين الديمقراطية والعنصرية والطائفية (إسرائيل مثالاً)؛ التمييز بين اللاجئين الآن أيضاً. ما هو أكيد أنّ العنصرية لم تغادر، ليس أوروبا، بل العالم بأكمله. وفي أوروبا التي استعمرت العالم، كانت أشكال العنصرية أكثر وضوحاً، حيث استعمرته وقسمته وزرعت الكيان الصهيوني فيه، ونهبت ثرواته، والكلام يخصّ المنطقة العربية برمتها. أوروبا التي اتجهت نحو الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية لم تعتذر من المستعمرات، وما زال الفرنسيون يواربون في ذلك، وسواهم أيضاً. الاستعمار، في وجه منه، تعبير عن أفضلية العِرق الأبيض على بقية العروق البشرية. والأسوأ هو التاريخ الأميركي وإبادة الهنود الحمر، وجلب الأفارقة عبيداً، ولم ينته التطابق بين اللون الأسود والعبودية حتى الستينيات، وهكذا. التجربة الديمقراطية الليبرالية الأوروبية والأميركية لم ترتق إلى قيم الثورة الفرنسية؛ المساواة العدالة الإخاء، وكلّ الاستعمارات أتت بعدها.
في المواجهة الأوروبية والأميركية لروسيا أيضاً مورست بعض أوجه العنصرية، حيث قاطعت بعض الدول، أو مؤسّسات فيها، الرياضة والموسيقى والفنون والرواية والمسرح الروسي؛ وإنْ لم تطبّق بشكلٍ واسع، لكنّ حدوث "مكارثية" كهذه يشي بأنّ أوروبا فيها ممارسات تمييزية كثيرة، وهي الممارسات ذاتها التي تطبقها الدول التابعة، كما النظام اللبناني مع الفلسطينيين والسوريين مثلاً، وكذلك ما يفعله النظام مع المعارضين، من قمع وقهر وإذلال، يتجاوز مفهوم العنصرية، وإنْ كان يستند إليه؛ الحاكم هو الإله، والمعارض تجب إبادته.
العقل السياسي في سورية أو أوكرانيا يمتلك أوهاماً كثيرة بخصوص أوروبا أو أميركا، فيعتقد أنّهما تقفان بحزمٍ مع الثورات أو الأنظمة الديمقراطية
شعور العرب والمسلمين، والسوريين تحديداً، أعلاه بالتمييز العنصري، وهو حقيقة واقعية، وفيها تعميماتٌ فاسدة كثيرة، يخفي أمراً لا يجوز إغفاله، فإذا أخذنا الموضوع السوري، نسأل: ألا تتحمّل ممارسات المعارضة دوراً في مأساة سورية؟ لماذا نضع اللوم على أوروبا والخليج وتركيا، وهي تتحمّل مسؤوليات كبيرة، ونُخلي ساحة المعارضة من المسؤولية، وعادة ما يجرى تهميش دورها! لقد أعطت الثورة للمعارضة دوراً كبيراً في أن تُجرّب، حتى تصل إلى رؤية وطنية جامعة تَحشد كلية الشعب، وتنظم شؤون الثورة وعسكرتها، منذ 2011 إلى 2013 أقلّها. لم تدقّق المعارضة بمجريات الثورة، بل ارتهنت للخارج بشكلٍ كامل، وتركت الثورة للفوضى الكاملة، في السلاح والتمويل والإعلام والخطاب والعلاقات مع الخارج، ولم تسيطر على القوى العسكرية، وبالتالي، سيطرت المصالح الإقليمية والدولية على تلك المجريات، وأصبح الصراع بين حلفي النظام والمعارضة.
تأتي الفكرة أعلاه ردّاً على استسهال القول إنّ المشكلة في سورية لم تُعامَل كمسألة عالمية. وبالتالي، يواجِه العالم الآن المسألة الأوكرانية، وهي أيضاً مسألة يتحمّل نظام زيلينسكي دوراً كبيراً فيها، فقد كان يتوّهم أنّ حلف الناتو سيتدخل ويمنع موسكو من الغزو، أليس هذا ما ساد عند المعارضة السورية، حين توهمت أنّ التدخل الأميركي قادم لا محالة، كما حدث في العراق وليبيا "جمعة التدخل الخارجي"! لا يمكن تغييب المسؤولية المحلية للنظام في أوكرانيا أو المعارضة في سورية عن المأساة الحاصلة في البلدين، كما أنّ المسؤول الأول نظام بوتين والنظام السوري.
يبدو أنّ العقل السياسي في سورية أو أوكرانيا يمتلك أوهاماً كثيرة بخصوص أوروبا أو أميركا، فيعتقد أنّهما تقفان بحزمٍ مع الثورات أو الأنظمة الديمقراطية، كما الأوكراني. وعلى الرغم من أهمية العقوبات ضد روسيا، فإنّ أوكرانيا تدمَّر، وأغلبية الروس سيعانون من آثارها، بينما الرد الفعلي على قضايا الاحتلالات أو الاستبداد يجب أن يكون بالتهديد المباشر بالحرب بكلّ بساطة، وكذلك يجب تأسيس نظام عالمي، يسوده فعلياً السلم والاستقرار، وهذا غير ممكن من دون تطبيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية والمساواة، وهذا يتناقض كلياً مع أسس النظام الرأسمالي، القائم على الملكية الخاصّة والربح، فماذا فعلت أوروبا أو أميركا من أجل ذلك، ولن نتكلم عن الكيان الصهيوني فقط. لا شيء أبداً. أميركا تهيمن منفردة على العالم منذ 1990، وقامت بحروبٍ ودمّرت أفغانستان والعراق، وفيهما جربت أسلحة لم يُكشف عن آثارها، وإنْ كانت التقارير تتحدّث عن اليورانيوم المنضب في العراق، وآثاره المستمرة، وأيضاً لن نتكلّم عن هيروشيما.
ما تزال أوروبا أنظمة رأسمالية، وأنظمتها السياسية ليست عادلةً، وعالميتها قائمة على المصالح، والتضحية بالحقوق العامة للشعوب
هناك مغالطات كبيرة في العقل السياسي السوري، منها أوهامه عن الديمقراطية الغربية، وكأنّها تلغي العنصرية والاستغلال الطبقي، ويتوسّع الوهم بأنها ستدافع عن حقوق الإنسان والثورات عالمياً. هذه ليست مشكلةً لدى تلك الديمقراطيات من أصله، تفترض ممارسات الأنظمة في أوروبا العنصرية، وتقوم على الاستغلال الداخلي والخارجي، وتقتات قطاعاتٌ منها على صفقات الأسلحة، وتصمت عن الأنظمة الاستبدادية من أجل صفقات الغاز والبترول والأسلحة؛ وهذا ليس خافياً عن شعوب تلك الديمقراطيات بالطبع.
ما تزال أوروبا، يا سادة، أنظمة رأسمالية، وأنظمتها السياسية ليست عادلةً، وعالميتها قائمة على المصالح، والتضحية بالحقوق العامة للشعوب، من أبسطها إلى أكبرها، فهناك احتلالات وهناك الصمت عن حقوق المعتقلين، كما الصمت مثلاً عن ممارسات النظام المصري بعد الانقلاب ضد المعتقلين السياسيين. وفي سورية أيضاً وبعد 11 عاماً، لم يناقَش موضوع المعتقلين السياسيين بجدّية.
نختتم بأنّ هناك ضرورة للخلاص من الأوهام عن إنسانية الأنظمة الرأسمالية في الغرب، وألّا نشيح أنظارنا عن دور المعارضات، وليس الأنظمة فقط، في المشكلات المحلية. وأيضاً هناك ضرورة عالمية لمواجهة أنظمة الاستبداد والاحتلالات. هذا ما يجب أن يقوم به الحراك العالمي القائم على مبادئ العدالة الاجتماعية والمواطنة والديمقراطية وحقوق الإنسان.