كي لا تكون قمة إسقاط الحق بالمقاومة
أمّا عن المقاومة، فإنّها لن تنهزم في غزّة، كونها محمية بتلك الحاضنة الشعبية المذهلة التي تستمسك بها استمساكها بأرضها وبيوتها، ما يجعلها عند المواطن الفلسطيني مسألة وجودية، وجزءًا من هويته وكينونته. وعلى ذلك، ليست الخسارة بالنسبة للإنسان الفلسطيني، وبدرجات متفاوتة الإنسان العربي، في تدمير غزّة، والذي هو، في الوقت ذاته، لن يكون انتصارًا للعدو، الذي يدرك أنّ المكسب الأكبر له ليس تدمير المدينة الصامدة، فقد فعلوها مرّاتٍ سابقة، ونهضت غزّة، واستعادت عافيتها بإعادة بنائها.
المكسب الحقيقي للعدو، والخسارة التاريخية لنا هذه المرّة، وصول التواطؤ العربي الرسمي هذه الجولة إلى إسقاط الحقّ في المقاومة، وهو ما يعني سقوطًا سياسيًا وحضاريًا وأخلاقيًا، سوف تدفع ثمنه أجيال قادمة في جميع العواصم العربية، التي هبطت وانخفضت إلى مستوى الرواية الصهيونية، ونزلت عند الرغبة الأميركية الإسرائيلية المشتركة.
والوضع كذلك، لا يمكن تصوّر أن تنعقد قمة عربية أو أخرى إسلامية، ولا يكون البند الأوّل، في بيانها الختامي، مشتملًا على نصّ واضح وصريح بدعم حقّ الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، والتصدّي للرواية الصهيونية والأميركية والأوروبية بشأن الصراع، من خلال توحيد الجهود الدبلوماسية والإعلامية العربية، بهدف حماية تاريخ القضية من المحو والتزوير والتشويه، باعتبار ذلك فرصة أخيرة أمام النظام الرسمي العربي، لكي يثبت للشعوب التي يحكمها أنّه منها ولها، وليس عليها، ومع الاحتلال، ضد عقيدتها ومشاعرها.
من المهم، بل من الواجب، أن يتّخذ المجتمعون، إن كانوا حقًا يمثلون الشعوب العربية، قرارًا بإيقاف كلّ مشاريع التطبيع مع عدوٍّ باتَ يُجاهر بأنّه على استعداد لاستنساخ مجازر غزة في كلّ عاصمة عربية لا تخضع لروايته ومقاربته للصراع، وهذا هو الحدّ الأدنى من المواقف الذي يمكن أن تقبل به جماهير عربية تعيش غضبًا وحزنًا وإحساسًا بالعجز والمهانة منذ ما يقرب من أربعين يومًا من الإجرام العسكري "الأميركصهيوني"، والتوّحش الدبلوماسي والإعلامي الغربي.
على الذاهبين إلى تلك القمّة المتأخّرة أن يسلكوا بوصفهم حكام شعب عربي، يدرك الطفل فيه، قبل الشيخ، أنّ هذا الكيان الصهيوني الذي يعيث إجرامًا منذ أسابيع ليس سوى مشروع استعماري قذر، نتاج تطهير عرقي مارسته الحكومات الأوروبية الاستعمارية، ثم غلّفت جريمتها بخرافة توراتية، وقرّرت تنفيذها بالتوافق بين أوغاد العالم على أرض فلسطين، عن طريق عملية تطهير عرقي أكبر لأصحاب الأرض الحقيقيين.
والحال كذلك، لا يليق بعربي، حاكمًا كان أو محكومًا، أن يعتنق هذه الخرافة أو يسكت عنها أو يتحالف مع من صنعوها ويفرضونها بالقوة الباطشة، أو يعادي من يرفضونها ويقاومونها من أبناء شعبه.
لن نطلب من أصحاب الجلالة والسمو والفخامة أن يحاربوا الاحتلال الصهيوني، ولن نطمع في أن يكونوا داعمين للمقاومة، فقط كلّ من نرجوه منهم أن يكفّوا ألسنتهم عن هذه المقاومة حين يدلون بتصريحات لوسائل الإعلام، وألا يتبرّأوا من حقّ الشعب الواقع تحت الاحتلال في أن يقاوم، وأن يمنعوا الأذى اليومي المتدفق من شاشات تلفزةٍ عربيةٍ ضد الشعب المحاصر.
ليس مطلوبًا منكم أكثر من أن يكون خطابكم مثل خطاب الصحافي البريطاني اليهودي النبيل، ديفيد هيرست، الذي مات أجداده في هولوكوست النازي، وبالرغم من ذلك يدافع عن حقّ الشعب الفلسطيني في أرضه، ومقاومته، أو مثل إعلامي بريطاني شريف آخر، هو ريتشارد مدهيرست، في تصدّيه لخرافات وأوهام "المستعمر الأوروبي الأبيض" عضو الكنيست الصهيوني الذي طالب بتوزيع سكان غزة على دول العالم، إذ لقّنه درسًا في التاريخ، وفي الأخلاق، والعدل، بقوله إنّ الفلسطينيين في وطنهم، وليسوا صناديق أو أدوات ليتمّ توزيعهم، وأنّ على هذا الصهيوني الوقح أن يحزم حقائبه ويرحل. "من أنت، بحقّ الجحيم، لتقرّر مصير الناس الذين يعيشون في فلسطين منذ آلاف السنين؟" هكذا قال ريتشارد، وهكذا يجب أن تقول القمّة العربية، إن كانت عربية حقًا.