كيف يصبح هؤلاء أثرياء؟
استرجعت عبارةً قالها البطل الخيالي العجوز الدكتور رفعت إسماعيل، في إحدى روايات الراحل أحمد خالد توفيق، حيث أجاب على سؤالٍ طالما راود كثيرين، حين قال: "لقد عرفت الآن كيف يصبح هؤلاء أثرياء، وكيف أبقى، أنا وأمثالي، ننتظر حلول موعد صرف الراتب في أول كل شهر، ونحن نعاني من الإفلاس مع سبق الإصرار والترصد".
تمرّ بك مواقف كثيرة تؤكّد لك أن ناسا كثيرين حولك يعرفون طريق اكتناز المال وليس الثراء، فهم ليسوا أثرياء تضجّ وسائل الإعلام بإحصاء ما يملكون من مال وعقارات مثلا، ولكنهم أثرياء بمعنى أن لديهم تلك الراحة النفسية بعدم القلق من المستقبل، فقد أمّنوا أنفسهم بشراء قطعة أرض مثلا أو ابتياع عمارة سكنية وتأجير طوابقها أو حتى حيازة المصاغ الذهبي المرصّع بأحجار كريمة باهظة الثمن، والسماح للزوجة لكي تتزين به في المناسبات فقط. وفي النهاية، تجدهم يعرفون أين ينفقون أموالهم مهما صغرت قيمتها، فحين تلوح مناسبة فهم آخر من يلبّون، وحين تأتي فرصة للمشاركة في عزاء فهم أول من يسأل عن توصيلة مجانية إلى المكان على حساب من يمتلك سيارة خاصة، حتى لو كانت مكتظّة بالمعزّين، وهم أنفسهم، بالطبع، لم يركنوا لاقتناء السيارات، لكي لا يطلب أحدهم منهم توصيلة مجانية. وأذكر أنني في المرحلة الثانوية قد تعلّمت مصطلح "التوصيلة المجانية" بالإنكليزية، وكنت أنوي أن أنتهجه في حياتي، حين يصبح لديّ مال ورخصة سياقة، ولكن ذلك لم يحدُث وأمضيت سني عمري الماضية بأن أكون الشخص الذي يضمن التوصيلة المجانية بسيارة أجرة لأثرياء بخلاء، ونحن نتوجه لزيارة مريض أو تقديم واجب العزاء أو حتى الترحيب بصديق عائد من السفر.
مرّ بي أشخاص كثيرون من هذه الفئة التي تريد أن تعرف موضع قدم كل قرشٍ تملكه، ولا تعرف معنى النخوة. ونعود إلى الخيالي رفعت إسماعيل، وهو الطبيب المتبرّع دوما بوقته وصحته، ويعرّض حياته للخطر في سبيل الآخرين، ولذلك يعيش عيشة الفقراء، لأنه يدفع من ماله الخاص من أجل هؤلاء، ولم يؤدّ دور مصّاص الدماء، مثل زملاء له أطباء يعيشون في بيوت فارهة، ويركبون سيارات حديثة، على عكس سيارته المتهالكة، ولكنه كان يمتلك ما لا يمتلكونه، وهو الشهامة وإجابة نداء الملهوف وإغاثة المكلوم. ولذلك وحقا هو شخصية خيالية، من الصعب أن تجدها على أرض الواقع.
تحاورتُ مع صديقةٍ ثريةٍ، تشغل موقعا مميزا في مؤسسة عملاقة، عن ضرورة التبرّع بجزء من مالها للفقراء، مثل أن تسهم في تعليم طالبة جامعية، فكان ردّها صادما، وهي تقتنع به إلى درجة أن لا تترك لك مجالا للنقاش، وهو أنها تتعب في الحصول على المال، ولا تحصل عليه بسهولة، وهو من حقها وحقّ أولادها. وعليها أن تستفيد منه حتى آخر قرش. ولذلك لا تكترث للنداءات والمناشدات التي تعجّ بها مواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا بعد تعرّض غزة لعدوان إسرائيلي، وتشريد عائلات أصبحت في حاجة لمساعدة عاجلة، كتدبر أغطية وأمتعة للنوم.
الغريب أن هناك من يبخلون بمالهم، ولكن هناك من يبخل بمشاعره، وفي ذلك العجب أكثر، فأنت حين تبكي حتى تكاد نياط قلبك تتقطع أمام سرير مريضٍ بأنفاسه الأخيرة، فهناك من يقف إلى جوارك، ينظر في صمتٍ ويتمتم بأن عمره قد انتهى، وبأن ما يحدُث نتيجة حتمية لتقدّمه في العمر، ولعدم اهتمامه بصحته، ولأنه كان يُنفق ماله على الآخرين بلا حساب، ولا يهتم بنفسه فلا يُجري فحوصا دورية، ولا يتعاطى مكمّلات غذائية، حتى وصل إلى هذا الحال. وفي هذه الحالة، تتمنّى لو لكمت هذا الشخص في أنفه، لكي تخرسه، ولكنك تضمّه إلى قائمة الناس الأثرياء الذين يعرفون كيف يثرون ليس بالمال، ولكنهم أثرياء بأذهانٍ صافية وعقول رائقة، لا يشوّشها التفكير بالآخرين ومعاناتهم، وهؤلاء لعمري يعمّرون في الأرض، وتموت أنت وأمثالك قبلهم مفلسا ومريضا.