كيف نفهم الحراك الطلابي الجامعي الأميركي من أجل فلسطين؟
لا ينبغي أبداً التهوين من المعركة الجارية في جامعات أميركية كثيرة، من أقصى الولايات المتحدة في الشمال الشرقي في ولاية ماساتشوستس إلى أقصى الغرب حيث كاليفورنيا، بشأن الموقف من الحقوق الفلسطينية، وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزّة. هي معركة حقيقية، وقد يكون لها تداعيات مستقبلية جوهرية، في المديين المتوسّط والبعيد، على الانحياز الأميركي الأعمى والتواطؤ الكامل مع إسرائيل، كما قد يكون لها تداعيات في المدى المنظور القريب على الانتخابات الرئاسية والتشريعية الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
الطرف الإسرائيلي وحلفاؤه في الولايات المتحدة، بما في ذلك في الحزبين الرئيسين؛ الديمقراطي والجمهوري، والإدارة، والكونغرس، والإعلام، واللوبي الصهيوني، يدركون تماماً خطورة ما يجري، وما قد يترتّب عليه من آثار سلبية على ما يوصف بالدعم الأميركي "الذي لا يتزعزع" لإسرائيل والتعامل معها أنها مستثناة من العقوبة حين تسيء التصرّف، حتى ولو كان في ذلك ضرر على المصالح الأميركية نفسها. من ثمَّ، يمكننا أن نفهم ذلك التهافت الإسرائيلي والأميركي، وفي أعلى المستويات، على إدانة طلبة الجامعات الأميركية، بما فيها أكثرها عراقة وشهرة مثل هارفارد وييل وكولومبيا وكاليفورنيا في بركلي، احتجاجاً على استثمارات جامعاتهم في شركات ومحافظ تجارية تدعم إٍسرائيل وتصنع أسلحتها، واتهام هؤلاء الطلبة بمعاداة السامية، والتعامل الأمني العنيف معهم، وتهديدهم بتدخل قوات الحرس الوطني لفضّ اعتصاماتهم السلمية في أحرام جامعاتهم.
أمام حجم التحدّي، الذي تمثّله اعتصامات الطلبة الجامعيين الأميركيين، لم يتمكّن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، من فعل الشيء الأسلم سياسياً، وعدم دسِّ أنفه في شأنٍ يُفترض أنّه أميركي داخلي، والاكتفاء بجهود اللوبي الصهيوني وحلفائه في محاولة احتوائها وقمعها، فكان أن خرج في خطاب، ألقاه الأربعاء الماضي، مُديناً تلك الاعتصامات ومحرّضاً عليها. وصف نتنياهو الطلبة المعتصمين سلمياً بـ"الغوغاء المعادين للسامية الذين استولوا على الجامعات الأميركية الرائدة". لم يكتفِ نتنياهو بتلك الأكاذيب، بل أضاف إنّ الاعتصامات "المروّعة" تلك "تدعو إلى إبادة إسرائيل"، وزعم إنّ المعتصمين "يـهاجمون" الطلاب وأعضاء هيئات التدريس من اليهود، وإنّ اعتصاماتهم "تذكّر بما حدث في الجامعات الألمانية في الثلاثينيات". كما كانت لافتةً وقاحةُ نتنياهو عندما وصف تعامل رؤساء الجامعات الأميركية، الذين هم جُلّهم، إن لم يكن كُلّهم، مؤيدون ومنحازون لإسرائيل، بـ"المخزي".
تدوس أميركا قيمها المدّعاة بنفسها، لكن هذه المرّة من أجل عيون ومصالح طرف أجنبي متمرّد عليها
جاءت تصريحات نتنياهو تلك، في اليوم الذي قاد فيه رئيس مجلس النواب الأميركي مايك جونسون وفداً من النوّاب الجمهوريين لزيارة جامعة كولومبيا، حيث ندّد بالاعتصام الطلابي فيها، ووصفه بـ "حكم الغوغاء"، ودان ما سمّاه "فيروس معاداة السامية" في الجامعات الأميركية. أبعد من ذلك، هدّد جونسون الطلبة بأنّهم إذا لم يفضّوا اعتصاماتهم، فإنّه سيكون "هناك وقت مناسب لتدخّل الحرس الوطني". ومع أنّ رئيسة جامعة كولومبيا، نعمت (مينوش) شفيق، منحازة كلياً لصالح إسرائيل، وضدّ طلبة جامعتها المؤيّد أغلبهم للحقوق الفلسطينية، إلا أنّ جونسون، ومن معه، لم يتردّدوا في الدعوة إلى استقالتها بسبب "فشلها" في حماية الطلاب اليهود. المفارقة أنّ شفيق، وغيرها من رؤساء الجامعات، كما في جامعة ييل، وجامعات نيويورك وتكساس في أوستن وجنوب كاليفورنيا، سمحوا لقوّات الأمن بانتهاك حرمة مؤسّساتهم التعليمية، التي تباهي بالنزاهة وبحرّياتها الأكاديمية، إذ أعتُدي على الطلبة المعتصمين واعتُقِل المئات منهم. بل إنّ مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي)، كريستوفر راي، أكّد أنّ مكتبه يُنسّق مع الجامعات لرصد "التهديدات بالعنف".
لم يشأ الرئيس جو بايدن، أيضاً، أن يفوّت فرصة إظهار تضامنه مع إسرائيل، فكان أن أصدر بياناً، يوم الثلاثاء الماضي، لمح فيه إلى أنّ الاعتصامات الطلابية تلك "معاداة صارخة للسامية تستحق الشجب". المفارقة، أنّ كثيراً من الطلبة المعتصمين وأساتذتهم المؤيدين لهم، نصرة للحقوق الفلسطينية ورفضاً للجرائم الإسرائيلية وتواطؤ جامعاتهم معها، هم أنفسهم يهود، وبعضهم اعتُقل من قوات الأمن (!) لكن، لماذا يهتمّ هؤلاء كلّهم، بدءاً من بايدن ونتنياهو وجونسون، مروراً بأعضاء في الكونغرس الأميركي واللوبي الصهيوني، وكثير من الإعلام الأميركي الذي لا يتورّع عن فبركة مزاعم "معاداة السامية"، بالتحرك الطلابي ضدّ إسرائيل؟ ... يمكن فهم ذلك من خلال زاويتين؛ تاريخية، وأخرى راهنة ومستقبلية مرتبطة بها.
تاريخياً، وتحديداً في ستينيات القرن الماضي، مثّلت الحركة المناهضة للحرب الأميركية في فيتنام تحديّاً أساسياًّ لإدارة الرئيس ليندون جونسون. كانت المجموعات الطلابية الجامعية عماد تلك الحركة. وعندما عجز جونسون عن احتوائها عمد إلى تخويل قوات الشرطة المحليّة و" إف بي آي"، بل حتى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه)، صلاحيات التجسّس، والتحقيق والاعتقال، والفضّ بالقوّة، ضدّ الحركات الاحتجاجية وعناصرها. وفي عام 1968، ضَمَّنَ المرشّح الجمهوري للرئاسة، ريتشارد نيكسون، "سحق" الحركة المناهضة للحرب في برنامجه الانتخابي، وهو ما بدأ عملياً في تطبيقه مع تسلّمه الرئاسة، مطلع عام 1969. وفي عام 1970، استدعيت قوات الحرس الوطني إلى جامعة كينت في ولاية أوهايو لفضّ احتجاج طلابي على الحرب، كانت نتيجته مقتل 13 طالباً. في خضمّ مساعي كلّ من جونسون ونيكسون في قمع الحركات الاحتجاجية، وعمودها الفقري من الطلبة، كانت غالبية إدارات الجامعات الأميركية متواطئة مع السلطة السياسية. ومع ذلك، لم يأتِ عام 1975 إلا وكانت الولايات المتحدة تنسحب من فيتنام، تحت وطأة خسائرها العسكرية هناك، وحركة الشارع الأميركي الاحتجاجية.
أكثر ما يقلق المؤسسة التقليدية الأميركية الحاكمة، واللوبي الصهيوني وحلفاءه، أنّ الجيل الأميركي الناشئ أكثر حساسية نحو الحقوق الفلسطينية
إذا انتقلنا إلى الواقع الراهن، وما قد يحمله من تداعيات مستقبلية، فإنّ استطلاعات الرأي المعتبرة تؤكّد أنّ الشرائح الشبابية الأميركية أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين. وحتى لا نغرق في كثير من التفاصيل، فإنّنا نكتفي باستطلاع رأي واحد، صادر في الثاني من الشهر الحالي (إبريل/ نيسان). فبحسب نتائج استطلاع مركز بيو للأبحاث، فإنّ نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين ضمن الشريحة العمرية بين 18-29 عاماً تبلغ 33%، مقارنة بــ14% يتعاطفون مع إسرائيل، و21% مع كلا الطرفين. الأمر الآخر، إنّ نسبة المتعاطفين مع الفلسطينيين بين ذات الشريحة العمرية من الديمقراطيين أو من يميلون إليهم تبلغ 47%، مقابل 7% فقط مع إسرائيل، و23% مع كلا الطرفين. مرّة أخرى، وفي محاولة للابتعاد عن تفاصيل ليس هذا مكانها، عن الفئات العمرية الأكبر سنّاً (كلما زادت الفئة العمرية كان التعاطف مع إسرائيل أكبر)، وحقيقة المزاج في صفوف الجمهوريين ومن يميل إليهم، وهم أكثر انحيازاً لإسرائيل، فإنّ ما يُهمّنا أنّ الجيل الأميركي الناشئ، عموماً، والذي يضم طلبة الجامعات، أكثر حساسية نحو الحقوق الفلسطينية، وهذا أكثر ما يقلق المؤسّسة التقليدية الأميركية الحاكمة اليوم، وكذلك اللوبي الصهيوني وحلفاءه. ويزداد الأمر تعقيداً بالنسبة للحزب الديمقراطي، الذي يعاني التيار التقليدي فيه الماضي في مسار التلاشي من انفصال رهيب عن مزاج قاعدته الشبابية الصاعدة. ومن ثمَّ، يخشى هؤلاء كلّهم تكرار تجربة الموقف من فيتنام.
بناء على ما سبق، فإنّ الواضح أنّ اللوبي الصهيوني الأميركي وحلفاءه قرّروا أنه لم يعد في إمكانهم "كسب عقول وقلوب" الجيل الأميركي الشاب، ومن ثمّ َ انحازوا إلى فكرة محاولة تخويفه وإسكاته وردعه، وإرغامه على الاختيار بين مستقبله التعليمي والوظيفي، وقناعاته الأخلاقية وضميره الإنساني. وهم في مسعاهم ذاك لا يعيرون أدنى اعتبار لقيم أميركية دستورية متضمّنة في التعديل الدستور الأول، خصوصاً ما يتعلق بحرّية التعبير وحقّ التجمهر. وهكذا، تدوس أميركا قيمها المدّعاة بنفسها، لكن هذه المرّة من أجل عيون ومصالح طرف أجنبي متمرّد عليها، وجاحد لجمائلها عليه. يبقى السؤال، هل ينجح الإمبرياليون الجدد في إفسادهم أم أنّ الجيل الأميركي الصاعد سيتمكن من خط مسار مستقبلي آخر، يكون أكثر عدلاً، وأقل انحيازاً وتواطؤاً وإجراماً؟ ... سؤال من الصعب الإجابة عنه في هذه السطور المحدودة. لكن، المعركة مستمرة، وينبغي الانحناء، احتراماً، أمام طلبة جامعيين أميركيين في عمر الزهور يقفون صامدين أمام أعتى نظام إمبريالي عالمي، وأشرس لوبي فاعل فيه.