كيسنجر أميناً لجامعة الدول العربية
تخيّل لو أن وزير الخارجية الأميركية الأسبق، هنري كيسنجر، والبالغ 98 عامًا، عاد إلى الخدمة، وتولى ملفات الشرق الأوسط المشتعلة، هل كان سيحتاج إلى كل ذلك الدهاء والجهد لكي يحقق أحلامه الصهيونية باستدراج العرب إلى غرف التطبيع المظلمة؟ هل كان الأمر سيتطلب منه التفكير في خطط وتكتيكات لخداع العرب بأوهام تحرير الأرض، بواسطة تلك الآلة العجيبة التي اسمها "مفاوضات السلام"، لكي يذهبوا فرادى وجماعات إلى منتجعات التفريط في الجغرافيا والتاريخ؟ وهل كان رئيسه، في سبعينيات القرن الماضي، الرئيس نيكسون، سيبث همومه وشكواه من الانحياز السافر لكيسنجر لصالح الكيان الصهيوني، وهو الانحياز النابع من انتمائه اليهودي، وأيديولوجيته الصهيونية؟
يكشف سفير الولايات المتحدة السابق لدى الكيان الصهيوني، مارتن إنديك، في كتابه الجديد "سيد اللعبة"، وقد حاورته صحيفة جيروزاليم بوست لمناسبة صدور كتابه هذا، عن أن الرئيس الأميركي، نيكسون، قد أوضح لكيسنجر أنه لا يثق به في التعامل مع إسرائيل، وبالتالي حاول استبعاده من التعامل مع ملفات الشرق الأوسط، بل إن نيكسون كان كثير الشكوى لموظفي إدارته، ولوزراء الخارجية العرب، وحتى للسفير السوفياتي، من انحياز كيسنجر لإسرائيل والدور الذي لعبه في حماية الدولة اليهودية من الضغط الأميركي.
تعرّف الصحيفة مارتن إنديك بأنه زميل متميز في مجلس العلاقات الخارجية وسفير أميركي سابق لدى إسرائيل، ومساعد وزيرة الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، ومساعد خاص للرئيس كلينتون. شغل منصب المبعوث الخاص للرئيس أوباما للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية من يوليو 2013 إلى يونيو 2014.
أهم ما يكشف عنه إنديك، بعد دراسته آلاف الوثائق والأوراق الخاصة بمسيرة عمل هنري كيسنجر في الخارجية، أن الأخير لم يكن داعية إلى السلام أو وسيطًا ساعيًا إليه، بل كان، قبل ذلك وبعده، صهيونيًا مخلصًا لإسرائيل، قضيته الأساسية تثبيت أوضاع الشرق الأوسط، تحت الهيمنة الأميركية، وبما يحقّق المصلحة الإسرائيلية. بل إن كيسنجر، وكما يؤكد إنديك "نظر إلى السلام بتشكك كبير، من واقع تجربته الخاصة وخبرته في دراسة التاريخ، حيث توصل إلى الاعتقاد بأن السعي لتحقيق السلام يمكن أن يزعزع استقرار النظام في المنطقة، وهكذا، بالنسبة له، كان السلام مشكلة وليس حلاً".
يقول إنديك إن استراتيجية كيسنجر للمفاوضات كانت تقوم على مبدأ "الأرض مقابل الوقت" وليست "الأرض مقابل السلام"، وذلك من أجل إنهاك العرب، في مفاوضاتٍ لا تؤدي إلى شيء، سوى إتاحة الوقت لإسرائيل لتقليل عزلتها وزيادة قوتها.
كانت مهمة كيسنجر المقدّسة إخراج مصر، بشكل كامل ونهائي، من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، فكان تركيزه كله في التوصل إلى فك الاشتباك بين مصر وإسرائيل، في العام 1974 بعد أقل من عام على حرب أكتوبر، وهو ما تحقق فعليًا، منذ إغواء كيسنجر للسادات، ودفعه إلى الهبوط بطائرته في مطار بن غوريون، محاطًا بأضواء مبهرة ولافتات خادعة، تصنع منه بطلًا، وتمنحه جائزة نوبل للسلام فيما بعد.
الشاهد أن كيسنجر لو ألقى نظرة على المشهد العربي الآن، وعاد بالذاكرة إلى نضاله الشرير من أجل منح كل شيء للاحتلال الصهيوني، فإنه سيرى نماذج من المسؤولين العرب يتفوقون عليه في الإخلاص لإسرائيل والتفاني في تحقيق أمنها السياسي ومصالحها الاقتصادية، على نحوٍ تبدو معه نضالات الصهاينة الأوائل جهدًا متواضعًا، إذا ما قورنت ببسالة النظام الرسمي العربي في الدفاع عن التوسّع الصهيوني في المنطقة.
ربما يكتشف كيسنجر، بعد كل هذه السنوات، أنه الأجدر بقيادة جامعة الدول العربية في هذه المرحلة الدقيقة من عمر الصراع. ولم لا وهو يرى النظام الرسمي العربي يقدّم لإسرائيل، في العلن، أضعاف ما كان يحلم به من أجلها، في الخفاء، وينفق الوقت والجهد لوضع تكتيكات التطبيع؟