كوفيد 19 وسؤالُ الشك في مآلات الحداثة
كيف نربط أزمة العالم الحديث بالوضع التائه الذي تعيشه الإنسانية اليوم في تفشّي وباء كورونا، وحجم الفوضى والتناقض الذي يشمل مؤسسات طبية كبرى، بما فيها منظمة الصحة العالمية، وتبين حجم التضليل الذي مارسته شركات اللقاح والأدوية، على الأقل في مساحة الكذب الذي تم التراجع عنه، في قضية الجرعات المعزّزة، وأن لا صحة لدورها في مواجهة متحوّر أوميكرون؟
كم هو حجم هذا التداخل بين مصالح القوة الرأسمالية في العالم في هذه الفوضى؟ وأين هو الرابط بين توظيف الدواء أو صناعة الرأي العلمي المؤدّي إلى تشخيص الوباء، وصفقات التجارة العالمية في اللقاحات والأدوية، فلأول مرة يواجه العالم الشامل قضية التشكيك في العلم التجريبي، ليس من خلال الجدل بين الفلسفة الأخلاقية والفلسفة الوظيفية للعالم الليبرالي المهيمن، ولكن في كل خريطة حياته اليومية، من غرفة المنزل حتى صعود الطائرة. ومن محطة الباصات وعربة النقل البسيطة إلى مؤسسات التعليم والأنشطة، بات الوباء ورسمه هو المسيطر على هذه الحياة اليومية للناس. ومع ذلك، لم تَسقط معادلة المعاناة بين القوة الرأسمالية وعالم الجنوب الفقير، أو إنسان الهامش في كل مكان.
حسناً، فلنضبط هذه المقدّمة جيداً، ونقل، هل التشكيك هنا يقوم على افتراض عدم صحّة الوباء، وأنه لا حقيقة له، وإنما هو مشروع استثمار رأسمالي كما يظنه بعضهم، بمن فيهم شرائح شعبية ومثقفة في الغرب، فنقول كلا، لسنا في صدد الخوض في هذه المساحة، فلدلائل حدوث الوباء وانتشاره كتلة شهود وتصديق، لكن سر قفزه وتَخلُّقه لا يزال يدور في حلقةٍ لم يُنظّم التصور عنها، وهو يحوم في رواق الصراع القذر بين قوى الشرق والغرب، وهي ذاتها من يملك ترويج الرواية ونفيها، بعد أن أصبحت الصين أيضاً قوة عظمى، لكنها تلبّست بالفكرة المتوحشة ذاتها للرأسمالية، كما فعل ورثة الاتحاد السوفييتي، في روسيا القياصرة الجدد.
التوقف للمراجعة ضرورةٌ لفرز أين هي مصالح الإنسان في النهضة الصناعية والعلمية، وأين استُثمرت هذه الصناعة ضد صحته ونفسيته وأمانه الاجتماعي
مساحة التناقض في التصريحات وفي التبرير للتعبئة المتعدّدة للجماهير، والتي قد تكون بالفعل نتيجة غموض خريطة قدرات هذا الفيروس اللامرئي، والذي لا يزال يتمرّد على العلم التجريبي، تكفي لطرح سؤال الشك الكبير، ما هو الفارق بين تحديد المختبرات القطعي العلمي اليقيني واقع الفيروس وأثره، وما هي مساحة الدعايات التي بثتها أذرعة الرأسمالية العالمية لصالح شركات اللقاح وأدويتها، ومن يستثمرها من الدول؟
إذاً، ليس مقالنا رفضاً لمنهج الطب والتداوي، ووسائط تطوّره العلمي وتجربة ميادينه التي مارستها الإنسانية منذ الطب الصيني القديم حتى طب المسلمين وبدايات التعرف الغربي له، ولكنه في أثر هيمنة قوة الحداثة على عالم الطب والدواء، كما هي المناهج الأخرى في هذا الكوكب، وخضوع العالم لركني المعادلة: أن الحداثة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وأما الركن الثاني فهو أنها القوة الوحيدة والحصرية لنقل جسور التطور الإنساني، عبر مفهوم التقدّم الذي حدّدته، ويخضع العالم اليوم له. فهل ما تشهده الأرض اليوم خارج وباء كوفيد هو نزرٌ قليل، في تطورات ما اصطلح عليه أزمة العالم الحديث. والأمرُ هنا لا علاقة له بتاريخ النهضة والتطور الذي حوّل العلم التجريبي إلى سلة من القدرات المؤهلة لدعم احتياجات الإنسان، ورفع النصب والتكلفة عنه، ومساعدة حياته اليومية لصحةٍ أفضل وطاقة ورفاه أوسع، ومسارات عديدة تشمله. وإن جرت في كل هذه السلة عمليات تحويل وتجريف مصلحية واسعة لأجل الصناعة الرأسمالية الكبرى، فالتوقف للمراجعة ضرورةٌ لفرز أين هي مصالح الإنسان في النهضة الصناعية والعلمية، وأين استُثمرت هذه الصناعة ضد صحته ونفسيته وأمانه الاجتماعي.
هذا في مسار الصناعة والتكنولوجيا وفروع العلم التجريبي، الذي ارتدّت بعض توظيفاته على الإنسانية، بسبب إسقاط الرؤية الغربية لمفهوم الروح الأخلاقية للكون، ومعادلة التكامل الإيماني في الوجود بين الله الخالق ومقصد رسله الأخلاقي، وبين الإنسان الإله الذي نُصب كبديل عن النبوات والخالق في تفسير العالم وتحديد مصيره.
العلم المعرفي الكوني يراقب المركز الأخلاقي الحقيقي في العدالة البشرية، وليس المركز الأخلاقي المصنوع لتبرير طغيان الحداثة
وتأمل هنا في واقع الإنسانية تحت هذه المعادلة في عالم الحروب والسياسات الدولية، ومخازن الأسلحة التي تكفي لتدمير الكوكب عدة مرّات، حتى تحول مشروع الوصول إلى المريخ إلى البحث عن تأهيله ككوكب أكثر أماناً للسكن، من أوصل الأرض إلى هذا المصير؟
تزامن حسم القوة الكولونيالية الجغرافية السياسية، لمستعمراتها القديمة، مع فرض نظرية أحادية تقوم على التالي: أولا، الغرب هو القوة التقدمية الأفضل للعالم، ودلائل ذلك في نهضته الصناعية، وفي نظمه الدستورية السياسية، وهيكل إطاره الحقوقي. ثانيا، تقوم تجربة الغرب على معادلة العلم التجريبي الذي اُعطي مقاماً يقينيا روّجت الأكاديمية الغربية أنهُ المنتهى لمرحلة التاريخ العلمي المعاصر، وقُدّمت باسم الحداثة من دون النظر إلى التاريخ الطبي للعالم القديم، وإرثه الاخلاقي. ثالثا، نقلت فكرة المختبر في تفاصيل العلوم أو في كلياتها المتخصصة، لتتحوّل إلى تعميم شامل يزكّي كل مفاهيم الغرب، في الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية، بل وفي التجريم والتبرئة، وفي المركز الأخلاقي للأمم المتحدة كمعايير لفرضها على الإنسانية، وأن من يرفض التسليم العقائدي للحداثة فهو متخلف بالضرورة، حتى لو كان يؤيد مدار النهضة الإنسانية، لكن عبر مركزيته الأخلاقية المختلفة.
اعتبرت هذه الأقانيم حدوداً لتحييد العلم المعرفي الكوني الذي يقوم على دلالة التبصّر والتفكّر في المشهد الكوني، ويصوغ رؤيته على دلائل المعرفة التي لا تخضع كلها للمختبر الظني، وإنما لما هو أكبر من العقل التجريبي وأوسع منه وأكثر دقّة، وأنه في كل مداراته وظلالها يراقب المركز الأخلاقي الحقيقي في العدالة البشرية، وليس المركز الأخلاقي المصنوع لتبرير طغيان الحداثة، وكان دائماً يحتجّ بأن نظريات الحداثة هي عقائد قطعية، لكنها عقائد أنزلها الإنسان الإله، على أمثاله في الوجود، فهل أنقذت عقيدته هذا الكون؟