كلّ هذا العنف في الأحزاب المغربية
تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي في المغرب مقطع فيديو، بدا فيه قياديٌّ في حزب الاستقلال يصفع زميلا له إثر خلافٍ حادٍّ نشب بينهما خلال التئام أشغال المجلس الوطني للحزب، السبت الماضي، بشأن الترشّح لرئاسة اللجنة التحضيرية للمؤتمر المقبل. وعلى الرغم من أن قيادة ''الاستقلال'' نجحت في تطويق ارتدادات الواقعة على ما يبدو، إلا أن ما حدث أعاد إلى الواجهة ظاهرة العنف داخل الأحزاب المغربية، لا فرق في ذلك بين الأحزاب المتحدرة من الحركة الوطنية وتلك التي ولدت ونشأت برعاية من السلطة. ما يعني، بدرجةٍ أو بأخرى، أن هناك عطباً ثقافياً مزمناً في تركيبة هذه الأحزاب، على اختلاف خلفياتها الفكرية والأيديولوجية.
شهدت الأحزاب المغربية تحوّلات عميقة لا تنفصل، في مجملها، عما يعتمل داخل المجتمع المغربي. ذلك أن ارتفاع منسوب العنف الذي باتت تُنتجه هذه الأحزاب، على هامش مؤتمراتها الوطنية والجهوية، يعكس الجذور الثقافية لأزمة الديمقراطية داخل الدولة والنخب والمجتمع، فقد أخفقت نخبها في إنجاز مصالحةٍ مع قيم الديمقراطية فكراً وممارسةً، ونبذِ العنف والوثوقية الفكرية والسياسية، والأخذِ بالحوار والتواصل وإشاعة ثقافة الاختلاف واحترام الرأي الآخر. كان إخفاقُها مريعاً في بناء نموذج سياسيٍّ حداثيٍّ مُغرٍ يُحرج السلطة التي تتوسّلُ بالتقليد مرجعيةً رئيسةً في سلوكها السياسي، فلا معنى لأن تطالب الأحزاب السلطة بالاحتكام للديمقراطية بينما قياداتها ونخبها لا ترى في غير العنف وسيلة لإدارة الاختلاف داخل أجهزتها وهياكلها.
يصعُب فهم ما آلت إليه الأحزاب المغربية، من دون وضع ذلك في ضوْء التحوّلات التي تعرفها الطبقة الوسطى الحضرية. لقد أصبحت الأحزاب ساحة للصراع الاجتماعي داخل هذه الطبقة بمختلف شرائحها، فشحُّ الموارد وضعفُ الحراك الاجتماعي الناجم عن سياسة التقويم الهيكلي وانسدادُ آفاق الترقي الوظيفي وتهميشُ أصوات المثقفين داخل الأحزاب وغيرها من مؤسّسات الوساطة والتأطير، ذاك كله جعل الأحزاب، بالنسبة لشرائح عريضة من الطبقة الوسطى، أحدَ منافذ الترقّي الاجتماعي السريع، بما يعنيه ذلك من حيازة موارد الوجاهة الاجتماعية والسياسية في مجتمع سلطوي، فبقدر ما ينجح الواحد في التنفُّذ داخل أجهزة حزبٍ معيّنٍ، يكون أقرب إلى الدائرة الضيقة لنخبته التي يصبح أعضاؤها مرشّحين، في أي لحظة، للاستوزار أو التعيين في مناصب رفيعة، فضلا عن حيازة منافع مادّية ورمزية كثيرة. وبالطبع، يتطلب النجاح في ذلك الدهاء والقدرةَ على المناورةِ وقراءة ميزان القوى داخل الحزب والاصطفافِ المحسوب بعناية داخل هذا الجناح أو ذاك.
لا تبدو الأحزاب المغربية معنيةً بإشاعة قيم الديمقراطية والتعدّدية والاختلاف داخل أجهزتها وهياكلها، بسبب بنيتها السلطوية وثقافتها السياسية التقليدية. ولذلك ليس مستغرباً أن تصبح ساحة مفتوحة للصراعات الشخصية والجهوية التي تتخلَّلُها، في أحيان كثيرة، مظاهر العنف المادي والرمزي التي تتحوّل إلى وسيلة ''مُثلى'' لترهيب الخصوم والمنافسين وإقصائهم من مواقع النفوذ، أو خلط الأوراق بمنطق ''عليَّ وعلى أعدائي''. وقد ساهم رحيل القيادات التاريخية، ولا سيما بالنسبة للأحزاب المتحدرة من الحركة الوطنية، في تفاقم ظاهرة العنف واستفحالها، فغالبا ما كانت تلك القيادات تُمثل، بحضوريها السياسي والرمزي نقطةَ توازن في صراع الأجنحة والتيارات والأجيال.
في السياق ذاته، كان لتراجع تأثير الأحزاب الكبرى، خصوصاً على صعيد وظائف التنشئة السياسية والتأطير والوساطة التي كانت تقوم بها، دورٌ بالغ في تحويل معظمها إلى أحزاب زبونية وعابرة للطبقات والأفكار والأيديولوجيات والمصالح، من دون رابط سوسيولوجي وفكري بين مكوّناتها. وهو ما فاقم أزماتها التنظيمية والسياسية، المفروض أن تعمل نخبُها على معالجتها بشكل ديمقراطي.
في الختام، تشكّل الأحزاب، في طوْرها الراهن، مختبراً مُغرياً أمام السوسيولوجيا المغربية بمختلف تخصّصاتها، بالنظر إلى أنها، مثل غيرها من المؤسّسات الاجتماعية، تتغذّى على أعطاب المجتمع وأزماته التي تعكس، في المجمل، غياب مشروع مجتمعي وتنموي واضح يستجيب لتطلّعات المغاربة نحو الإصلاح والتنمية والعدالة الاجتماعية.