كلهم بشار وكلهم بن غفير

11 مايو 2023

(معمر مكّي)

+ الخط -

كان من أبرز الشعارات التي مهّدت للثورات العربية المباركة وواكبتها، شعار "كلّنا خالد سعيد"، الذي أطلقه في يونيو/ حزيران 2010 نشطاء مصريون أبرار، صدَمهم ما فعلته فئة من قوات الأمن المصرية، عندما قتلت في الإسكندرية، وفي وضح النهار، شاباً مصرياً فضح إجرام بعض منتسبيها بنشر فيديو أظهر رجال الشرطة وهم يقتسمون كميّة مخدرات ومبالغ مالية صودرت من مجرمين. ولا بد من التنويه هنا بأن من زوّد الناشط بهذا الفيديو لا بد أنه كان من شرفاء رجال الشرطة، هاله ما رأى، فأكثر رجال الشرطة هم من الشرفاء كما هو الحال في كل قطاعات الشعب، ولكن يأتي زمان يعلو فيه الباطل. اختارت القيادات الأمنية في مصر وقتها الانحياز لمجرميها، فلم تتّخذ قراراً باعتقال من افتضحوا، أو على الأقل إبعادهم، بل سمحت لهم باستخدام موارد الدولة الاستخباراتية لتعقّب الناشط، ثم القبض عليه، وضربه حتى الموت على مرأى ومشهد من العامّة. ثم تسترت عليهم حينما كذبوا ودبّروا فرية أنه مات اختناقاً عندما ابتلع مخدّرات.

وبينما اصطفّت الدولة وإداراتها وقياداتها وحزبها وإعلامها خلف المجرمين، فإن فئة مقدّرة من الناشطين انحازت إلى الضحية، وواصلت مهمته في فضح المجرمين، عبر صفحة في "فيسبوك" أنشئت في يونيو/ حزيران 2010، بعد أيام من مقتله. وكان التجاوب الجماهيري، حيث بلغ متابعوها أكثر من مائة ألف في أقلّ من أسبوع، واستمرّ في التصاعد. وكانت هذه الحادثة، وبعدها التزوير الفج للانتخابات البرلمانية في خريف 2010، ثم تفجّر ثورة الياسمين ونجاحها في تونس في ديسمبر/ كانون الأول 2010، شرارة ثورة 25 يناير. وبالقدر نفسه، كان ثوار تونس ثم سورية وليبيا يقولون بلسان حال كلّ منهم: "كلنا البوعزيزي"، أو "كلنا أطفال درعا"، أو "كلنا أسر ضحايا مجزرة سجن أبوسليم".

كانت هذه الثورات، إذاً، ثورات النبل العربي، ثورات الشهامة والانحياز للضعفاء ضد إجرام الظلمة، فمن تصدّى للثورة، في أول أمرها، لم يكن الضحايا أنفسهم، بل طائفة مهمّة من المثقفين والمهنيين والطلاب من الطبقة الوسطى. صحيح أن قطاعات واسعة من الجماهير انضمت إلى الثورات في ما بعد، ولكن رأس الحربة فيها وجوهرها كان هذا السموّ الأخلاقي والتجرّد، والاستعداد للتضحية دفاعاً عن العدل والحق. وقد جسّدت هذه الانتفاضات بسالة وشجاعة غير عادية، خصوصاً في سورية وليبيا. فمن خرج إلى الشارع كان يعرف النزعة الإجرامية لأنظمة لا تتورّع عن شيء، وقد رأوا ما كانت قادرة عليه في حماة وتل الزعتر وسجن أبوسليم. ولكنهم لم يتراجعوا قيد أنملة.

في المقابل، مارست الأنظمة الكذب والتضليل، وهو سمة الجبناء. لم تعترف عندها بجرائمها المشهودة، وإن كان التنصّل والكذب إدانة ذاتية، ووعياً بفظاعة ما ارتكبوه. ولو كان ما فعلوه كما زعموا إحقاقاً للعدل أو "دفاعاً عن الدولة" كما يدّعي من يبرّر لهم، لكانوا اعترفوا بشجاعة بفعلهم. ولكنهم شهدوا على أنفسهم.

لم يكتف بشّار بالفتك بغالب سكان سورية وتدمير مدنها، بل أطاح استقلالها، حيث إنها أصبحت اليوم مستعمرَة روسية - إيرانية، وكلتاهما تعامل بشّار باحتقار يستحقّه

في مقابل ما قامت به وعليه الثورات، فإن ما شهدته الساحة العربية في الأيام الماضية من احتضانٍ شبه جماعيٍّ من الأنظمة العربية لجزّار سورية بشار الأسد، يمثل النقيض من روح النبل التي سادت في تلك اللحظة العربية الأصيلة المشرقة، فقد بطش النظام السوري بأكثر من نصف مليون من مواطني ذلك البلد المنكوب، وتسبّب في إصابة مليوني شخص، وتشريد أكثر من 13 مليون مواطن. دمّر النظام كذلك غالبية مدن سورية الكبرى، مثل حلب وحمص، واستهدف المستشفيات. وتمثل هذه الأعداد أكثر من ثلثي سكان سورية. ولم يكتف بشّار بالفتك بغالب سكان سورية وتدمير مدنها، بل أطاح استقلالها، حيث إنها أصبحت اليوم مستعمرَة روسية - إيرانية، وكلتاهما تعامل بشّار باحتقار يستحقّه.

فما الذي يا ترى يدفع الزعماء العرب إلى التدافع باتجاه حاكم هذا حصادُه، بعد أن خلصنا وخلصهم الله من بقية العصبة (زين العابدين بن علي وعلي عبد الله صالح ومعمر القذافي)، كأنما هو المنقذ للنظام العربي المتهالك من الهوّة التي سقط فيها. ولعل المفارقة أن معظم الأنظمة التي هرولت باتجاه طاغية سورية بشار الأسد هي نفسها التي تسابقت في الهرولة تجاه إسرائيل، وتقبيل يد نتنياهو، والانحناء أمام بن غفير؟ ألم يصموا آذاننا بصراخهم عن تمدّد إيران وتوسّع نفوذها؟ وهل كانت مصادفة أن قرار إعادة سورية إلى الجامعة العربية تزامن مع وصول الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق في أول زيارة لرئيس إيراني لسورية منذ تفجّر الثورة السورية؟ وهل كانت مصادفة أن القرار جاء بعد تقارب بين دول من الخليج العربي مع إيران، تمثل بإعادة العلاقات السعودية الإيرانية، و"تطبيع" إماراتي مع طهران؟

فكيف تصادف أن الدول التي تقود التطبيع مع سورية هي نفسها التي تولت كبر التطبيع مع إسرائيل؟ وقد كان تبرير التطبيع مع إسرائيل هو التحالف معها ضد إيران، والتصدّي لخطرها. ولهذا السبب، احتضنت الدول العربية الأهم أكثر نظام عنصري متطرّف في تاريخ إسرائيل والمنطقة، فقادة الحكومة الإسرائيلية، وفي مقدمتهم المتطرّف الديني إيتمار بن غفير، هو مزيج بين خليفة دولة داعش أبو بكر البغدادي ورئيس فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني. ولماذا يندمج محور المقاومة في محور التطبيع بهذه السلاسة المدهشة؟

 يزعمون أنهم يحاربون التطرّف الديني، ولكنهم يحتفلون بالتطرّف الديني في إيران والكيان الصهيوني

لقد حيّرنا القوم بالفعل. هم يزعمون أنهم يحاربون التطرّف الديني، ولكنهم يحتفلون بالتطرّف الديني في إيران والكيان الصهيوني. ويزعمون إنهم يتصدّون لنفوذ إيران، ويتذرّعون بذلك في هرولتهم تجاه إسرائيل، ولكنهم يثبتون انتصار إيران الأكبر في سورية، كما فعلوا عند خضوعهم لها في العراق واليمن ولبنان. ويدّعون أنهم يمثلون العروبة، ولكنهم يقدّمون كل ما استطاعوا (وزيادة) من الدعم لمن يجتهدون في التهام ما بقي من فلسطين، ويعتدون يومياً على المقدسات. إننا لا بد أن نحمد لزعمائنا الكرام هذه المعجزة الكبيرة، التي دمجت "محور المقاومة" في الكيان الصهيوني، وبالغت في محبّة الطرفين، وهو إنجاز لا يخلو من عبقرية.

ولن نستغرب، إذا شرّدت إسرائيل قريباً مزيداً من الفلسطينيين من قطاع غزّة والضفة الغربية، كما شرّد بشار السوريين والفلسطينيين معاً، أن نسمع من هؤلاء أن الحقّ على الفلسطينيين الذين فرّطوا في أرضهم. هذا في وقت يتهمون فيه الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه بالتطرّف، ويبتهجون لبطش إسرائيل به.

أقل ما يمكن أن يقال في ما نشهده، هو غوص عربي في مستنقعٍ يبتعد عن المسلّمات الأخلاقية الأبسط. ففي وقت ترفض فيه حتى الولايات المتحدة وأوروبا إعادة الاعتبار للأسد الذي تمادى في إجرامه، ولم تظهر منه أدنى توبة عن الجرائم التي ارتكب في حق شعبه، وفي وقتٍ تعبّر فيه الدول عن التضامن مع ضحايا الأسد العرب، نجد أن طائفة أكبر من اللازم من الزعماء العرب تهرول باتجاه زعيمٍ من هذا الصنف. ولعلها مفارقة أن أوروبا والغرب فتحا أبوابهما للاجئين السوريين، فيما لم تستقبل البلدان العربية بكاملها عشر ما استقبلته أوروبا من المُبعدين. وبالطبع، نسبة أقل ممن استقبلتهم تركيا، فهل يكون الأباعد أكثر تعاطفاً مع ضحايا الظلم العرب من الزعماء العرب؟

الأنظمة العربية تدمّر مصادر القوة الذاتية عندها، فهي تطلب العزّة عند دول قد تكون إجرامية، ولكنها تعزّز مصادر قوتها الذاتية

وقد يكون هذا ما يوحّد المهرولين تجاه بشّار، وفي الوقت نفسه تجاه نتنياهو وبن غفير، والآن تجاه إبراهيم رئيسي: عدم وضع اعتبار لكرامة العرب وحقوقهم وحياتهم، مقابل أولوياتٍ أخرى، أهمها السلطة. ويكشف هذا البحث عن السند السياسي من الخارج عند جهاتٍ مفلسةٍ أخلاقياً، مثل إسرائيل نتنياهو وبن غفير، وسورية الأسد الممزّقة والمحتلة، عن مستوى كبير من اليأس، وكفر بالشعوب، وأنها لن تقبل بهم راضية. وهكذا يقول قائلهم: كلّنا بشار، قاتل شعبه، وكل بن غفير، محتقر العرب.

المشكلة التي تواجه القيادات العربية أن هذه الهرولة باتجاه كل كفّار أثيم لن تجدي شيئاً، فمشكلة الأنظمة العربية أنها تدمّر مصادر القوة الذاتية عندها، فهي تطلب العزّة عند دول قد تكون إجرامية، ولكنها تعزّز مصادر قوتها الذاتية. إيران وإسرائيل عزّزتا قدراتهما العسكرية وبنتا اقتصاديهما، واحتضنتا من شعوبهما المتطرّف والمعتدل. أما الدول المهرولة تجاه كل سراب، فهي تدمّر قدراتها الذاتية، وتقهر شعوبها بدلاً من أن تبني قدراتها. وفي اليمن مثلاً، حاربت الإسلاميين المعتدلين الذين كانوا سندها، في وقتٍ دعمت فيه إيران المتطرّفين. ولهذا هزم معسكر الاعتدال في اليمين، لأن دول التحالف كانت تصرف وقتاً أكبر في ضرب حلفائها وقمع شعوبها... نحن في انتظار النصر المبين الذي سيحقّقه بشّار لهذه الدول، فهو فارسهم وقائدهم وهاديهم وزعيمهم. فلعله يتوسّط لهم عند رئيسي وبوتين؟

بعيد انقلاب عمر البشير في السودان، كتبت في نهاية أغسطس/ آب 1989 أعلق على الخيارات المتاحة أمام النظام الجديد في ظل تجارب الانقلابات العربية التي انتهت كلها بكوارث أقول: "الأنظمة دائماً أمام خيارين: التذلّل للخارج، واسمه العمالة، والتذلّل للشعب واسمه الديمقراطية." ونضيف هنا أن خيارات العمالة كانت دائماً كارثة على من تبنّاها.

822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
822FB209-C508-489D-879A-A08F3BBC562D
عبد الوهاب الأفندي

أكاديمي سوداني، أستاذ العلوم السياسية في معهد الدوحة للدراسات العليا. عمل بتدريس العلوم السياسية في بريطانيا منذ 1997، وكان قد عمل في الصحافة والدبلوماسية والطيران في السودان وبريطانيا. أحدث مؤلفاته "كوابيس الإبادة.. سرديات الخوف ومنطق العنف الشامل"

عبد الوهاب الأفندي