كسر الانسجام في الانتخابات الإسرائيلية
رغم قتامة المشهد السياسي الفلسطيني، وبذل التضحيات بلا توقف، أمام آلة تنكيل لا تتوقف، تبرز من بين المظاهر الإيجابية المتنامية ظاهرة التواصل والتفاعل التي يبديها الجسم السياسي والوطني لأبناء أراضي العام 1948 مع التطورات الدامية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وحيث ينشط الفاعلون السياسيون وراء الخط الأخضر في نقد سلوك جيش الاحتلال وتعريته، وفي إبداء مختلف مظاهر التضامن مع أشقائهم في الضفة والقطاع، والتشديد على أن شعب فلسطين هو واحد وموحّد هنا وهناك، وأنهم بالذات جزء من هذا الشعب، وليسوا "عرب إسرائيل" كما تردّد أبواق المؤسّسة الإسرائيلية.
وقد عمّت مظاهر الغضب والحداد أرجاء الضفة الغربية يوم الأربعاء الماضي، 28 سبتمبر/ أيلول، إثر ورود أنباء عن استشهاد أربعة شبان فجر ذلك اليوم في مخيم جنين، وذلك في نطاق الحملة العسكرية لقوات الاحتلال باستهداف هذا المخيم الذي يضم لاجئين لجأوا إليه في العام 1948. ولطالما شكّل هذا المخيم الذي استشهدت على أحد مداخله الصحافية شيرين أبو عاقلة معقلا لظاهرة مقاومة شبابية تعتمد على مبادرات جيل جديد، ينضوي بعضُه ضمن الانتماءات الفصائلية من دون أن يكون ممتثلاً لتعليماتها وحساباتها الميدانية. وبينما ادّعى جيش الاحتلال أنه قام بجريمته هذه لإحباط "عملية كبيرة كانت على وشك الوقوع"، إلا أن سلسلة الوقائع تفيد بأن حكومة يئير لبيد منحت وزير الأمن، بني غانتس، حرية العمل ضد المخيم، بما في ذلك القتل بدم بارد، وشنّ عملية عسكرية كبيرة.
جاءت المشاركة الواسعة في الاحتجاجات داخل الخط الأخضر لتزيل الحواجز المنظورة والخفية بين جناحي شعب فلسطين
وقد وقعت هذه الجريمة الجديدة في الذكرى الثانية والعشرين لانطلاق الانتفاضة الثانية في مثل هذه الأيام، والتي انطلقت شرارتها مع اقتحام رئيس وزراء الاحتلال الأسبق، أرييل شارون، باحات المسجد الأقصى، وتصريحه آنذاك بأن منطقة الحرم إسرائيلية، وهو ما أشعل شرارة الانتفاضة في عموم أرجاء الضفة. وفي سياق تلك الانتفاضة، جرى اعتقال القيادي في حركة فتح، مروان البرغوثي، وأمين عام الجبهة الشعبية، أحمد سعدات. وقد شهدت تلك الانتفاضة تفاعلا حيويا معها من الكتلة الفلسطينية الكبيرة داخل الخط الأخضر، إذ ثارت احتجاجات صاخبة انطلقت من الناصرة، وامتدّت إلى مدن وبلدات أخرى، وتعاملت الشرطة الإسرائيلية مع هذه الاحتجاجات الشعبية مثلما تتعامل مع الاحتجاجات في الضفة الغربية المحتلة، علماً أن الحقّ في التظاهر والتجمّعات العامة متاحٌ ضمن القانون الإسرائيلي، وقد أدّت عملية القمع الدموية لسقوط 13 شهيدا من مناطق العام 1948. وقد جاءت المشاركة الواسعة في الاحتجاجات داخل الخط الأخضر لتزيل الحواجز المنظورة والخفية بين جناحي شعب فلسطين.
ويسترعي الانتباه أنه مع انهماك أبناء العام 1948، في هذه الآونة، بحملاتٍ انتخابية ساخنة استعداداً لانتخابات الكنيست في مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وخصوصا مع فشل القائمة المشتركة في الحفاظ على مكوناتها الثلاثة، أثارت جريمة قتل الشهداء الأربعة، عبد الرحمن فتحي خازم ومحمد أبو ناعسة ومحمد محمود براهمة وأحمد نظمي علاونة، غضبا عارما في أراضي العام 1948، إذ دان التجمّع الوطني الديمقراطي في بيان سياسي "الإعدامات الميدانية والعقوبات الجماعية التي تنفذها قوات الاحتلال" و"ممارسات الاحتلال الانتقامية في الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية التي هي سبب التصعيد في هذه المنطقة، خصوصًا العقوبات الجماعية وهدم المنازل وترحيل وسحب إقامات وتصاريح أقارب منفّذي العمليات، كما يفعل أي نظام قمعي من العصور الوسطى". وحمّل "التجمّع" "حكومة لبيد بجميع مركباتها مسؤولية التصعيد الإجرامي في الأراضي الفلسطينية المحتلة". ودعا إلى أوسع ضغط شعبي ودولي على إسرائيل لدفعها إلى وقف انتهاكاتها وجرائمها البشعة". ودانت القائمة الانتخابية للجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحركة العربية للتغيير في بيان لها "الاقتحام الدموي لمخيم جنين"، وأكد البيان "أن هذا الاقتحام يأتي ضمن سلسلة التصعيد العسكري الذي تقوم به حكومة الاحتلال وجيشها ضد جنين ومخيمها ومدن الضفة المحتلة، بشكل خاص في السنة الأخيرة". وقال البيان "إن ما تسمّى بحكومة التغيير تمارس ذات السياسات الاحتلالية الدموية تجاه شعبنا الفلسطيني بل وتصعّدها، وهذه جرائم يتحمّل مسؤوليتها كل أطراف هذه الحكومة بلا استثناء".
دفعت تطورات الضفة مكونات الحركة الوطنية داخل أراضي 1948 نحو مزيد من بلورة المواقف المناهضة لسياسات الاحتلال
ومن حسن التدبير السياسي أن التطورات داخل الضفة المحتلة دفعت مكونات الحركة الوطنية داخل أراضي العام 1948 نحو مزيد من بلورة المواقف المناهضة لسياسات الاحتلال، رغم عاصفة الخلافات السياسية التي أسفر عنها تنصّل طرفين من القائمة المشتركة من اتفاق مبرم (الجبهة وحركة التغيير) مع الطرف الثالث (التجمّع الوطني الديمقراطي) بشأن انتخابات الكنيست، ومبادرتهما إلى تقديم قائمة ثنائية تجمعهما، ما اضطرّ "التجمّع" إلى الترشّح بقائمة مستقلة. وقد دارت الخلافات حول النأي عن المعسكرات الإسرائيلية المتنافسة، والامتناع عن دعم أي معسكر كما جرى في دعم لبيد الذي أثبت أنه لا يقل سوءا إن لم يكن أسوأ من نتنياهو، وهو رأي التجمّع الوطني الديمقراطي، وبين الرأي القائل إنه يجب ممارسة التأثير لتسمية الأقل سوءا في مرحلة معينة، وعدم الوقوف موقف المتفرّج، وهو رأي الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة والحركة العربية للتغيير.
وواقع الحال أن هذا الخلاف يستند إلى افتراق الرؤى بشأن مفهوم المؤسسة الإسرائيلية، فبينما يراها "التجمّع" سلطة استعمارية أٌنشئت دولة لليهود فقط، يتعامل الطرفان الآخران مع الأمر الواقع، ويحاولان التأثير فيه للحد من تغوّله. ويمتد الخلاف إلى النظرة إلى أبناء العام 48، فبينما ينظر إليهم "التجمّع" باعتبارهم المواطنين الأصليين وأصحاب الأرض التاريخيين، وأن لهم بالتالي هوية قومية خاصة بهم، يراهم الطرف الآخر مواطنين، ويدعو إلى تحقيق المساواة بينهم وبين بقية مواطني الدولة. على أن الأطراف الحزبية الثلاثة، ووراءها كتل شعبية واسعة، تنجح، بدرجات وبصورة مطّردة، في طرح القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي في فضاء الحملات الانتخابية، وعلى شتى المنابر وباللغتين العربية والعبرية، بينما تعزف عن ذلك الأحزاب الصهيونية (باستثناء حركة ميرتس)، وهو ما يكسر الانسجام الحاصل في الخطاب الانتخابي، ويقضّ مضاجع اليمين الصهيوني الذي كانت تساوره أحلام يقظة بأسرلة نحو مليوني مواطن عربي فلسطيني.