كريم مروّة... قد يجفّ النهرُ لكن مجراه يبقى
في نهر الحياة المتدفّق لا يبقى غير صخور الوادي، أما الأتربة فتجرفها السيول وتنثرها هنا وهناك. وحدَه الصخرُ يرسخ في الأرض كشاهدة دهرية لا تنثني ولا تتفتّت ولا تذروها الرياح. وكريم مروّة الذي رحل عنا، يا للأسى، في 10/1/2024، ظلّ طوال سبعين عامًا من تاريخ النضال السياسي في لبنان منيعًا كصخر الوديان، ثابتًا كطوْدٍ يتحدّى الريح. أما رحلته المضنية في دروب السياسة فكانت تجسيدًا للحلم الذي راود جيلاً عربياً كاملاً، ولا سيّما بعد النكبة الفلسطينية في سنة 1948، وتمثّل في السعي نحو التحرّر للأوطان والحرية للمواطنين والديمقراطية للمجتمعات والعدالة للجميع. ومن حُسن طالعي أنني سرتُ شوطاً من أيامي مع كريم مروّة، ورافقتُه في بعض محطّات عمره، وانتعشنا معاً بمناقشات ثريّة في السياسة والفكر والتاريخ والثقافة والأدب.
كانت كنيتُه "أبو أحمد" على اسم والدِه، فيما ابنُه يدعى غسّان، الأمر الذي أربكني في إحدى المرّات في منزله، وجعلني أنادي زوجته العزيزة نجوى بزّي: "أم أحمد". فصحّحتْ لي عبارتي قائلة: أنا أم غسّان، أما الجالس أمامك فهو "أبو أحمد". وكانت مودّتي معقودة لأبو أحمد طلال سلمان، فصارت معقودة للاثنين معًا. أما صورتُه فصارت أليفةً لنا منذ المرحلة المبكّرة من وعينا السياسي، خصوصاً في صحيفة النداء، وكان اسمُه مألوفًا لدينا أيضًا فوق صفحات مجلة الطريق. وتسنّى لي أن أراه من بعد، وكنتُ فتىُ غرّا، في الاحتفال بمئوية لينين الذي نظمّه الحزب الشيوعي اللبناني في بيروت في سنة 1970، لكنني أم ألتقِه مباشرة إلا مرّات قليلة، وبشكل عابر، وفي مناسبات متناثرة في سبعينيات القرن المنصرم، فقد كنّا نعتقد أننا ماركسيون من طراز جيفارا وهوشي منه والجنرال جياب وكاسترو، ولا نتردّد في الجهر بأن الأحزاب الشيوعية إنما هي أحزابٌ إصلاحيةٌ لا ثورية. وتكرّرت الحال في الذكرى الخمسين لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني (24/10/1974)، حين انتشينا بلحظاتٍ من الفرح في احتفالاتٍ دامت عشرة أيام تخلّلها الرقص والغناء والموسيقى والمسرح، ثم في النادي السينمائي العربي الذي كان إبراهيم العريس وعدنان مدانات، الدينامو الثنائي لهذا النادي الذي اتّخذ من سينما كليمنصو مكانًا لعرض أفلام الفن والتجربة التي قلما تُعرَض في الصالات التجارية، مثل أفلام أندريه تاركوفسكي (سولاريس وأندريه روبلوف)، وأفلام بارادغانوف (ظلال الأجداد المنسية).
... عندما قرّر كريم مروّة ومحمد دكروب إعادة إصدار مجلة الطريق، العريقة، بعد توقفها القسري، دعاني الصديق الحبيب محمد دكروب إلى المساهمة في الكتابة للمجلة، وكتبتُ فيها غير مقالة، كانت أولاها عن قسطنطين زريق ونضاله السري في فلسطين والعراق (الطريق، العدد 4، تموز/ آب ـ يوليو/ أغسطس 2001). وقد رأى وليد الخالدي في تلك المقالة مبالغةً غير جائزة علميًا. لكن، ما إن صدر كتاب شفيق جحا عن "الحركة العربية السرّية: جماعة الكتاب الأحمر" (بيروت: دار الفرات، 2004)، حتى تبيّن أن ما ذكرتُه عن النضال السري لقسطنطين زريق، وعن مشاركته في دعم النضال الفلسطيني بالسلاح في ثورة 1936، كان مطابقًا بالفعل لتاريخ قسطنطين زريق السياسي الحقيقي.
ظلّ وفياً لفكرة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ومنحازاً إلى عدالة قضية فلسطين، ومناوئاً للانعزالية اللبنانية المعادية للفكرة العربية
أتاحت لي صداقتي لكريم مروّة إجراء حوار مسهبٍ معه استغرق تسجيله أيامًا مديدة، تنقّلنا في أثناء ذلك بين مكتبه في مقرّ الحزب الشيوعي في حي الوتوات ومنزله في شارع مار إلياس في قلب بيروت. وصدر الحوار بعنوان "كريم مروّة يتذكّر" (بيروت: دار المدى، 2002). ويحقّ لي أن أزهو بندوات ومحاضرات مشتركة جمعتنا معًا في المجلس الثقافي للبنان الجنوبي الذي تفانى في رعايته الراحل حبيب صادق، وفي معرض بيروت للكتاب العربي والدولي. وكنتُ معه في محاولة تأسيس مجلّة فكرية ثقافية باسم "رؤى"، وأنجزنا عددًا تجريبيًا في مايو/ ايار 2009. لكن الذين وعدوه بكلفة الإصدار استنكفوا أو تملصوا أو اكتشفوا عدم القدرة، وبقي العدد التجريبي الشاهد الوحيد على تلك المحاولة يزيّنه اسم عبد الكريم مروّة (صاحب المجلة والمدير المسؤول)، وإلى جانبه اسمي بصفة رئيس التحرير. وكان آخر ما تشاركنا فيه معًا إصدار كتاب عنوانه "مراسلات كريم مروّة" (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2001)، حيث تطوعتُ لتحرير الرسائل المختارة وتقديم الكتاب إلى القرّاء.
.... ولد كريم مروّة في الثامن من مارس/ آذار 1930، أي في اليوم نفسه الذي صارت نساء الكرة الأرضية يحتفلن بِيوم المرأة العالمي. وفي 1947 أرسله والدُه إلى بغداد لمتابعة دروسه على أن يرعاه ابن عمّه الشيخ حسين مروّة. وفي بغداد زاغ عن العمامة وصار شيوعيًا. وعندما هبط في مدينة بيروت أول مرّة لم تمنعه تربيته الدينية من التسلّل إلى إحدى صالات الفن لمشاهدة الراقصة سامية جمال، ولعل بذره عشق الفن والجمال علقت به منذ تلك السن المبكّرة. إلا أن قضية فلسطين أدخلت إلى وعيه المسألة القومية، من غير أن ينضم إلى أي حزب قومي عربي، كالبعث مثلاً (تاريخ وصول "البعث" إلى السلطة يطابق تاريخ ميلاده)، لكنه تطوّع، حين كان فتىً، في إحدى المجموعات التي راحت تطارد المهاجرين اليهود الذين كانوا يتقاطَرون على لبنان، ثم يتسلّلون منه إلى فلسطين بحماية قوى سياسية محلية. آنذاك نشر أولى مقالاته في مجلة العرفان (1948)، في صيغة رسالتين: الأولى عنوانها "رسالة إلى عربي"، والثانية "رسالة إلى يهودي". وقد ساءه أن تفشل الحركة القومية العربية في إنقاذ فلسطين، واستاء من مباركة الشيوعيين العرب قرار تقسيم فلسطين في 1947، ومع ذلك التحقق بالحزب الشيوعي السوري – اللبناني، لكنه وقف بصلابةٍ إلى جانب رئيف خوري ضد الحملة التي شنّها عليه الشيوعيون جرّاء رفضه قرار التقسيم. وهكذا فعل مع فرج الله الحلو.
ساهم في إنشاء "الحرس الشعبي" في جنوب لبنان لمقاومة الاعتداءات الإسرائيلية في أواخر 1969
ساهم في إنشاء "الحرس الشعبي" في جنوب لبنان لمقاومة الاعتداءات الإسرائيلية في أواخر عام 1969، وفي إطلاق "قوّات الأنصار" التي أعلنت الأحزاب الشيوعية في سورية ولبنان والأردن والعراق تأسيسها في أوائل 1970، ثم أصبح نائبًا للأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في 1984، وترك موقعه هذا في 1992. وفي جعبة كريم مروّة خفايا وأسرار كثيرة، منها أنه أراد مع جورج حاوي (الأمين العام للحزب)، فتح باب الحوار مع حزب الكتائب اللبنانية في أواخر سنة 1975 من دون إعلام القيادة الحزبية بذلك، في محاولة لوقف الحرب الأهلية. وقد كلّفا غسّان تويني القيام بالوساطة وتأمين اجتماع لهذه الغاية. وبالفعل، جرى ترتيب الموعد، على أن يكون جوزف شادر (نائب رئيس حزب الكتائب اللبنانية)، ممثلاً لذلك الحزب. وقبيل الموعد المتفق عليه، اتّصل غسّان تويني بهما قائلًا: "إنسوا الموعد". وتابع جورج حاوي وكريم مروّة مسعاهما، فاتصلا بالوزير ميشال إدّة لترتيب موعد مع البطريرك الماروني بطرس خريش، واتُفق على موعد محدّد، وأن المطران رولان أبو جودة سيكون ممثل البطريركية المارونية. وقبيل الموعد اتّصل ميشال إدة بهما قائلاً: "إنسوا الموعد". ويكشف كريم مروّة في كتابه "رحلة عمر" (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2019)، أن الحزب الشيوعي اللبناني كان ضد التصدّي للدخول العسكري السوري إلى لبنان في 1976، وحاول إقناع كمال جنبلاط وياسر عرفات بعدم الدخول في معركة الجبل ومواجهة الجيش السوري، لكن الحزب لم يفلح في إقناع جنبلاط بهذا الموقف، واضطرّ للانضمام إلى القتال خلافًا لقناعاته. ويزيح أبو أحمد الستار عن دوره في معارك بيروت ضد حركة أمل؛ فهو الذي قاد عملية إخراج حركة أمل من بيروت في 1987 بعد تفاقم اعتداءاتها على الحزب الشيوعي واغتيال كوادره، أمثال كامل الصباح وخليل نعوس وسهيل طويلة وميشال واكد، ثم مهدي عامل (حسن حمدان) وحسين مروّة وغيرهم.
... كان كريم مروّة جريئًا في الإفصاح عما يراه ويعتقد، وعن التحوّلات الفكرية والسياسية التي غمرته في مراحل شتى، ولا سيما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وصورته هذه تخالف الصورة المألوفة للشيوعي القديم الذي تتحوّل الدنيا من حوله ولا يتحوّل، مع أن كارل ماركس كان يردّد باستمرار أن القانون الوحيد الذي نعرفه ونعترف به هو قانون التغيير. وقد تراجع كريم مروّة عن الشيوعية، وبقي متشبثًا بالاشتراكية، واختار التراجع إلى خط الدفاع الثاني للشيوعيين العرب الذين احتمى كثير منهم بالعلمانية وبناء الدولة الوطنية، ولو في دولة رأسمالية تتضمّن مقادير من العدالة الاجتماعية. وشكّل هذا التراجع مسارًا جديدًا لشيوعيين كثيرين راحت مصطلحات مثل "الصراع الطبقي" و"دكتاتورية البروليتاريا" تختفي من أدبيّاتهم، وشاعت، بدلاً منها، عبارات جديدة، مثل "التعدّدية السياسية" و"المجتمع المدني"، حتى أن العداء للإمبريالية ما عاد ضروريًا ليساريين كثر. وبهذا المعنى، اختفت التخوم بين الماركسي الثوري الذي كان يناضل في سبيل الحريات والليبرالي، وامّحت الحدود بين اليساري الذي ناضل طويلاً في سبيل المساواة والعدالة الاجتماعية وضد التمييز العنصري والطبقي والدعاة الجدد للديمقراطية والليبرالية. والمعضلة هنا شاملة، وتتخطّى حدود التجربة اللبنانية، إلا أن اليسار اللبناني (وغير اللبناني) لم يتورّع عن إقامة علاقاتٍ وثيقة جدًا مع دول عربية غير ديمقراطية، كالعراق وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي، ولم يتجرّأ على نقدها البتة. وداخ بعض اليساريين العرب الدوخة العجيبة بعد حرب 1973؛ فاليسار المصري، على سبيل المثال، أوقف نشاطه السياسي ونقدَه النظام المصري على المطالبة بتحرير سيناء. فلما شنّ أنور السادات الحرب في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 1973 ضاع ذلك اليسار، وبات لا يعرف ما يفعل، حتى أن إسماعيل عبد الله الماركسي الذي سُجن طويلاً صار وزيرًا للتخطيط في إحدى حكومات السادات. وفي لبنان، عاد ماركسيون كثيرون إلى طوائفهم. وفي سورية تحالف بعضهم مع الإخوان المسلمين. وفي فلسطين تحول كثيرون إلى مسؤولين في جمعيات NGO’s وخبراء لدى الدول المانحة، واختاروا الليبرالية بعد طول مكابدة مع الماركسية، حتى بدت صحيحة تمامًا العبارة إن "الشيوعي هو مَن يقرأ ماركس وأنغلز ولينين، أما المعادي للشيوعية فهو الذي يفهم ماركس وأنغلز ولينين". ومع ذلك، كان كريم مروّة مختلفًا عن هؤلاء وأولئك، فقد ظلّ وفيًا لفكرة الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، ومنحازًا إلى عدالة قضية فلسطين، ومناوئًا للانعزالية اللبنانية المعادية للفكرة العربية، حتى لو تسربلَت بعض مواقفه بالكيانية اللبنانية المستجدّة. وها أنا، في هذا المقام من الحُزن، تمنّيتُ لو أن كريم مروّة عاش أكثر ليرى ماذا سيقول الشيوعيون اللبنانيون والسوريون في الذكرى المئوية لولادة الحزب الشيوعي السوري – اللبناني.