كركوك بوّابة الفتنة المحتملة في العراق
شكّلت قضية مرجعية محافظة كركوك العراقية عقدة أي تفاهمات بين حكومة بغداد والأكراد، طيلة تاريخ العراق الحديث، وبعد قانون الحكم الذاتي الذي أقرَّ في 11 مارس/ آذار عام 1974م بين الحكومة المركزية والملا مصطفى البرزاني، هذا القانون الذي ضمن لأكراد العراق حقوقاً دستورية لا يمكن التلاعب بها لاحقاً شملت ثلاث محافظات هي أربيل، والسليمانية، ودهوك، لكن، ولغرض تسهيل الوصول للتوقيع على الاتفاق بين الطرفين، ولصعوبة حسم موضوع كركوك المعقّد أصلاً، فقد تأجل موضوعها إلى فترة لاحقة، لغرض إجراء تعداد سكاني، ومراجعة الإحصاءات التاريخية، لتوضيح نسبة القوميات المتعايشة فيها؛ ذاك أن سكان هذه المحافظة تاريخياً كانوا مزيجاً من الأكراد والتركمان والعرب.
وبعد احتلال العراق عام 2003، وسنّ الدستور الجديد، وضعت كركوك ضمن المادة 140 من هذا الدستور، والتي وسمت بـ "المناطق المتنازع عليها"، ومع وجود المحتل الأميركي مُسيراً ومنظمّاً لشؤون العراق، أيقنت القيادات الكردية الشريكة والفاعلة في حكم العراق الجديد، أن موضوع كركوك وغيرها من مناطق كبيرة مُختلف في عائداتها الإدارية، باتت قاب قوسين أو أدنى من الانضمام إلى مساحة سيطرة إقليم كردستان وإدارتها.
ومع تشكّل الحكومات العراقية، والتي ابتدأت بحكومة انتقالية معترف بها دولياً، برئاسة أياد علاوي في عام 2005، وانتهاءً بحكومة محمد شياع السوداني الحالية، ظن الجميع، عرباً وتركماناً وأكراداً، بكل وزارة، وما تعنيه هذه العبارة من دعم كردي مؤثر وحاسم لكل عملية تسنّم أي رئيس للوزراء في العراق، وكلهم بالطبع من المكوّن الشيعي الذي تربط قياداته السياسية روابط ووشائج قوية مع الحزبين الديمقراطي والاتحاد الكردستانيين منذ فترات طويلة قبل عام الاحتلال 2003، ظنوا أن أي من هذه الوزارات ستنفذ المادة 140 على الأرض، وبالتالي، تنتهي آخر مشكلات إقليم كردستان العراق مع حكومة المركز في بغداد.
بعد فشل حصول الأكراد على مبتغاهم في استفتاء الانفصال عام 2017، ظهرت بوضوح أزمة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان
لعل نوري المالكي، وفق الحسابات الكردية، هو أسوأ وأمكر من تعامل مع مطالبهم، وكان مع اشتداد الأزمات بينه وبين القوى الكردية يتراجع خطوة إلى الوراء، ليضع القيادات الكردية، وخصوصاً الحزب الديمقراطي الكردستاني على حافّة هاوية أمام أي قرار ينسف التفاهمات بين المكوّنات السياسية الشيعية وحكومة المركز التي كان يرأسها دورتين كاملتين (2006- 2010، 2010- 2014)، وفي عام 2013 على وجه الخصوص، وبعد قطيعة كردية للعملية السياسية نتيجة سياسات المالكي، وجه الدعوة إلى رئيس وزراء الإقليم آنذاك، نجيرفان البازاني. وأبدى استعداده لحل كل المشكلات مع الإقليم مع وعدٍ بالالتزام بالمبادئ الثلاثة الأساسية التي قامت عليها العملية السياسية في العراق: الشراكة الوطنية، والتوافق، والتوازن. ورغم أن البرزاني توافق مع وعود المالكي، فإنه صرّح بعد انتهاء الاجتماع معه قائلاً "التجربة المرّة السابقة لرئيس الوزراء الذي لا يلتزم كثيراً بوعوده وتعهداته، ونحن الآن ننتظر تطبيق ما اتفقنا عليه، ووقع عليه المالكي نفسه".
وقّع المالكي والبرزاني اتفاقاً إطارياً في حينها، أهم بنوده تشكيل لجنة تنسيقية أمنية عليا بين الإقليم وبغداد لمعالجة ملفين: الأول المناطق المتنازع عليها وكيفية إدارتها المنصوص عليها في المادة 140 من الدستور العراقي، وقضية التوازن في الوزارات الأمنية، وتحديداً وزارة الدفاع، إضافة إلى تعديل الموازنة العامة التي رأى الأكراد أنهم ظلموا فيها". لقد بلغت تجاوزات المالكي حدوداً خطيرة عندما اتهم علانية سلطة إقليم كردستان بإيواء جهاديين مسلحين، ومن قبلها تصريحه العلني الرسمي أن "هوية كركوك عراقية، ويجب ألا تطغي هوية على أخرى، وهي تمثّل عراقاً مصغراً ومثالاً للتآخي والتعايش السلمي بين جميع العراقيين". ثم بدأ التحريض من أركان حزب المالكي ونوابه على قادة الإقليم، وبالتحديد ضد رئيسه (حينها) مسعود البرزاني واتهامه بالديكتاتورية والتفرّد بالسلطة، قابله ردود من البرزاني نفسه ضد حكومة المالكي، التي اتهمها بالتنصّل من الوعود والالتزامات، وتفرّد المالكي بكل مقدرات الحكومة، والاستحواذ على المناصب الأمنية والسيادية في الدولة".
لعل نوري المالكي، وفق الحسابات الكردية، هو أسوأ وأمكر من تعامل مع مطالبهم
وبعد فشل حصول الأكراد على مبتغاهم في استفتاء الانفصال عام 2017، ظهرت بوضوح أزمة بين الحكومة الاتحادية وإقليم كردستان، حيث اعتبر بيان لمكتب رئيس الوزراء، حيدر العبادي، أن الاستفتاء "ممارسة غير دستورية تعرّض أمن واستقرار البلد للخطر، وهو إجراء لا يترتب على نتائجه أي أثر واقعي، بل يؤدّي إلى انعكاسات سلبية كبيرة على الإقليم بالذات". أعقب ذلك طلب الحكومة المركزية من إقليم كردستان تسليم المطارات الموجودة فيه إلى الحكومة الاتحادية خلال مهلة ثلاثة أيام، مهدّدة بإغلاق المجال الجوي في حال عدم الانصياع لهذا الأمر، ثم تسارعت التطورات بعد نشر قوات للسيطرة على حقول النفط في كركوك والمناطق الأخرى المتنازع عليها مع كردستان العراق. في حين اعتبر نوري المالكي الاعتراف بنتائج هذا الاستفتاء يمثل قيام "إسرائيل ثانية" في شمال العراق.
بعد موضوع الاستفتاء على الانفصال خسر الإقليم كثيراً من مزايا كانت محطّ إدارته قبلها، حتى بات كل شيء تقريباً مرتبطاً بالمركز، والحدود، والمطارات، ومبيعات النفط، ورواتب الموظفين والمتقاعدين، والضرائب، وغيرها، وكان استلام رئيس الوزراء الحالي، محمد شيّاع السوداني، نقطة، رأى فيها قادة الإقليم بصيص أمل في عودة الآمال لإدارة الإقليم بعودة المكتسبات التي كان الإقليم يتمتّع بها، عزّز ذلك قيام السوداني بعدة زيارات إلى أربيل، وتقاربه مع زعامات الحزب الديمقراطي الكردستاني، مع كم كبير من الوعود الخاصة بمطالب كردية مركزية وتاريخية، مقابل موقف كردي داعم لحكومته، لكن السوداني لا يعمل بمفرده في القضايا الاستراتيجية، بل من خلال مؤسّسة "الإطار التنسيقي" التي يتزّعمها بشكل مباشر، نوري المالكي، وهي تراهن دائماً على مسك قضايا الرهانات السياسية المفصلية للأكراد والسنّة العرب التي تحول دون تمكّن المكوّنين من صنع مراكز القوة المؤثرة في صنع القرار بالعراق، ولأن الموضوع الذي أثار زوبعة كركوك، أخيراً، موافقة السوداني على تسليم مقرّ أمني في كركوك للحزب الديمقراطي الكردستاني الذي كان يشغله منذ ست سنوات مضت، ورفع أعلامه عليه، تمهيداً إلى عودته لممارسة أنشطته السياسية في هذه المحافظة الحسّاسة جداً.
الحركات السياسية وإدارات المحافظات مطالبون بالابتعاد عن موضوع المحاصصة والمساومات على حساب شرف تمثيل الشعب في كل مناطق العراق
قرار السوداني المفاجئ تسبب في اندلاع أحداث شغب، بين محتجين أكراد من جهة، وأنصار قوى سياسية عربية وتركمانية من جهة أخرى، تسبّبت بمقتل أربعة أشخاص وجرح عشرات، معظمهم من الأكراد، وقطع طريق كركوك - أربيل الحيوي، وبعد اقتراب أحداث الشغب هذه إلى حدود الخطوط الحمراء، واحتفال الإدارة الكردية بعودة المقرّ ذي الطابع الرمزي إلى سيادتها، وإصدارها طابعاً يحتوي على صورة لتمثال، تخليداً للقوات الكردية (البيشمركه) في كركوك، وهو يحمل علم إقليم كردستان، وكتب تحت الصورة "كركوك هي كردستان"، أصدرت المحكمة الاتحادية العراقية قراراً بإلغاء قرار السوداني، واعتبرت قرارها نهائياً وملزماً لجميع المسؤولين.
لن تتوقّف قضية كركوك، كما أن الموقف الحكومي المرتبط بأجندات حزبية وولاءات خارجية يربك إمكانية اتخاذ قرارات وطنية تراعي مصالح الشعب، بما يُنذر بامتداداتٍ مشابهة إلى محافظات أخرى ومناطق متنازع عليها، منها نينوى، وديالى، والسليمانية، وأربيل، وسواها، لذا فإن الحركات السياسية وإدارات المحافظات مطالبون بالابتعاد عن موضوع المحاصصة والمساومات على حساب شرف تمثيل الشعب في كل مناطق العراق، وإن ما يؤخذ من وراء الجُدر سُرعان ما يوقفه ويهده هدير الشعب، فلدى الأحزاب القوية صوتها المؤثر الذي تحتاجه القوى المتلاعبة لوصولها إلى سدّة الحكم بتفوّق وتمكّن، وعليها أن لا تمكّنها من ذلك.