كتب تعيش بالترجمة

07 نوفمبر 2022

(حازم حرب)

+ الخط -

حين تُصادف كتباً معروفة، اعتادت الأذن أسماءَها واستساغتها الذاكرة، تُعاد ترجمتها وأحياناً أكثر من مرّة، تشعر وكأن هناك كتباً تتجدّد حياتها بالترجمة، أو تعيش وتتنفس بها. وبالتالي، تتجدّد قراءتها، بسبب هذا التجديد الذي لا يخلو من جدل، وذلك حين يُرفق المترجم العمل بمقدّمة يذكُر فيها دواعي إعادته كتاباً سبق أن تُرجم وانتشر انتشاراً واسعاً في اللغة العربية. ويمكن أن تشتمل هذه المقدّمة على أسبابٍ مقنعة، مثل بعض الترجمات المتسرّعة، أو تلك الأيديولوجية التي طاولت جزءاً من الأدب الروسي المدعوم من مؤسّسات سوفييتية، وما يمكن أن تخضع له الترجمات في هذه الحالة من إكراهات لصالح السياق الواقعي الاشتراكي. وكذلك يمكن أن نجد كتباً تُعاد ترجمتها أكثر من مرّة. 
أذكر هناك عملين عالميين لا تمرّ فترة طالت أو قصرت إلا ونسمع عن ترجمة جديدة لهما. على سبيل المثال، رواية جورج أورويل "مزرعة الحيوانات"، فقد ظل العنوان واحداً، ولكن الترجمات إلى العربية وصلت إلى ست. ضمنها ترجمة من الإنكليزية للروائي العُماني محمد عيد العريمي، صاحب السيرة الروائية الفجائعية "مذاق الصبر". ويمكن الحديث عن ترجمات عن لغات أخرى. أعدت، أخيراً، قراءة هذه الرواية بترجمة المغربي محمود عبد الغني عن الفرنسية مع مقدّمة يشير فيها إلى ما اعتبرها هنات شابت الترجمات السابقة. بدت لي هذه الترجمة منشطة لما قرأت سابقاً. وأتذكّر أن ذلك حدث مع ترجمة مصرية قديمة، ثم مع ترجمة محمد عيد العريمي، بدت ترجمة عبد الغني متميزة كذلك، ربما لأن المترجم ذو خلفية شعرية، وقد تجلى ذلك  في انتقاء المفردات.
عمل آخر تُعاد ترجمته مراراً، رواية "الأمير الصغير" للفرنسي أنطوان دو سانت، التي مرّت على أكثر من مترجم، صدر جديدها قبل أيام عن دار نثر العُمانية. لكن الغريب أنه رغم وجود ترجمات سابقة لبعض الأعمال، ما إن تُعاد ترجمتها حتى ترى الإقبال عليها متواتراً، كأنما العمل ولد من جديد. لا ننسى كذلك النزوع النوستلجي، حين ترى كتاباً سبق أن قرأته مثلاً منذ ثلاثين عاماً، وتعاد الآن ترجمته، مثل ما حدث مثلاً مع كتاب "هكذا تكلم زارادشت"، حين تصدّى لترجمته التونسي علي مصباح، مشفوعة بمقدّمة تنتقد بدورها ما سبقها، وأحياناً إلى درجة عدم الاعتراف بذلك المجهود السابق، رغم أننا لم نشعر بأن ترجمة فيلكس فارس كانت تشكو من شيء حين قرأناها في التسعينيات. وربما قرأتها أجيالٌ قبلنا، حيث إنها تُرجمت أول مرة في نهاية الثلاثينيات. 
ربما لن تمر فترة إلا ونجد ترجماتٍ جديدة، لهذه الكتب أو لغيرها. وكأننا هنا أمام كتبٍ لا تعيش إلا بالترجمة. روايات دوستويفسكي، التي قرأنا كثيراً منها بمتعة وبعربية عالية بترجمة السوري الراحل سامي الدروبي، تشهد، هي الأخرى، ترجمات جديدة، وبعضها عن الروسية، كما يفعل أحياناً الشاعر المغربي إدريس الملياني، الذي يكتب مقدّمات لترجماته، يذكر فيها ملاحظاتٍ على ترجمات الدروبي، مثل تكرارها كلماتٍ عربية تحمل المعنى نفسه.
استمتعت بالقدر نفسه بترجمتي الملياني روايتي دوستويفسكي "الليالي البيضاء" و"مذكّرات من البيت الميت". وربما لأن الملياني شاعر فقط، انعكس ذلك على ترجمته، حيث خيّم ظل شعري عليها. نجد ذلك بوضوحٍ أكثر في ترجمة أخرى له لسيرة يفغيني يفتشينكو، الشاعر وكاتب السيناريو الروسي الذي جمعته صداقة بمواطنه الشاعر بوريس باسترناك، الحائز جائزة نوبل عام 1958 عن رائعته "دكتور زيفاغو".

593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي