كبوة الشعبوية المؤقتة
ما حصل في الكونغرس الأميركي، الأربعاء الماضي (6/1/2021)، دليلٌ ساطعٌ جديد وملموس على ما يمكن للتحشيد العاطفي والشعبوية السياسية الانتهازية أن يفعلاه في جموع العامة. وهذا الاستعراض المشين ليس نادر الحدوث في التاريخ البشري الحديث، فلنا في تحشيد أدولف هتلر وحزبه النازي الشباب الألماني على هامش الديمقراطية الألمانية في العقد الثالث من القرن الماضي خير نموذج. كما لا يمكن أن ننفي أن طغاة، كفرانشيسكو فرانكو وبينيتو موسوليني، لم يحصلوا على تعاطف شعبي بنسبٍ متفاوتة، قد ترتفع وقد تنخفض بشكل متواتر حسب الفترة المقروءة. وقد ساهم هذا التعاطف باقتناع جزءٍ لا يُستهان به من العامة بما اختطته هذه الرموز القيادية من سياسات، وما لجأت إليه من ممارسات في الحقبة الأولى من بدء سيطرتها على الحكم في أقل التقديرات.
وقد بدا أن مفهوم الشعبوية، الذي رأى النور في القرن التاسع عشر، قد صار مستعملاً بصورة شبه اعتباطية، لوصم كل ما يعتقد أحدُنا بأنه يختلف مع قناعاته السياسية والفكرية، أو في سعينا إلى انتقاد توجه سياسي قد نختلف معه في المبدأ أو في الأداء أو في كليهما معا. وبالتالي، يمكن أن نجد تصنيفاً يضع الفنزويلي هوغو شافيز إلى جانب الأميركي دونالد ترامب إلى جانب المجري فيكتور أوربان مع الفرنسي جان لوك ميلانشون ومواطنته مارين لوبين في السلة نفسها، وهذا مبدئياً غير دقيق من الناحية المفاهيمية ومن جهة سياق التحليل. والتمييز ضروري، ليس فقط لكثرة إساءة استعمال المفهوم وتحويله إلى وعاء واسع قادر على حمل خليط هجين من المتناقضات، لكنه ضروري أيضاً لأهمية هذه الظاهرة وتعديلها لفهمنا للحراك السياسي والاجتماعي، من خلال ملاحظة الانحرافات في الممارسات العامة.
لدى الترامبية الفرصة لإعادة إنتاج ظواهر مماثلة ربما تحلّت بالذكاء السياسي أكثر من مؤسّسها
التمييز الضروري لا يحمل غالباً على النفي المطلق للصفة عن هذا الزعيم أو ذاك، أو عن هذه السياسة أو تلك، بل إنه حتما سيساهم في زيادة عدد أشكال الشعبوية وأنواعها. كما أن المفهوم بحد ذاته لا يمثل لكثيرين ممن يتبنون مساره مسألة سلبية بامتياز، بل على العكس، فبعض منهم يعتبر أن تبنّي الشعبوية في الأداء العام هو من أنواع مواجهة المؤسسات السياسية القائمة والتقليدية التي صار الشك في شرعيتها، وفي أساليب عملها، قاسماً مشتركاً في بلدان ديمقراطية كثيرة، فهو إذاً مسارٌ يكاد يصفه أصحابه المقتنعون به بالمسار الثوري. ومن جهة أخرى، يقذف أصحاب القناعات التقليدية ممن يتبنّون المؤسسات القائمة، ويرون أن الاستقرار والازدهار مرتبطان باستمراريتها وازدهار دورها، كل من خالفهم الرأي، يميناً ويساراً، بصفة الشعبوية، وإن لم تكن قد وضحت فيه أبداً.
وإن ارتبط مفهوم الشعبوية بالأيديولوجيات اليمينية غالباً، إلا أنه لم يسلم من وقوعه أيضاً مطية لبعض التوجهات اليسارية، وبالتالي، فقد صار عاملاً مشتركاً بين اليسار واليمين من وجهة نظر من يقرأ الأداء في الشكل وفي المسارات وفي الوسائل، أما المضمون فهو عامل متغير من توجّهٍ إلى آخر، وبنسب كبيرة أحياناً.
ارتباط مفهوم الشعبوية بالأيديولوجيات اليمينية، لم يسلم من وقوعه أيضاً مطية لبعض التوجهات اليسارية
ما جرى في واشنطن الأسبوع الماضي حلقة مهمة في مسلسل تطور مسار المفهوم، والمستند، في الحالة الأميركية، إلى تعاظم التأثير الذي رسّخه دونالد ترامب منذ أربع سنوات، والذي لم يستند أساساً إلى القاعدة الجمهورية الحزبية، بقدر ما استطاع أن يجذب أعداداً هائلة من المواطنين الأميركيين، والذين لم يكن، حتى للحزب الجمهوري، عبر أكثر برامجه يمينيةً، أن يجتذبهم. وقد ساهم في هذا الجذب، الخطاب الشعبوي الترامبي المستند إلى التخويف والتحشيد والكلام خارج الأطر التقليدية للخطاب السياسي، وحتى الأخلاقي. وعلى الرغم من أن جُلّ المتابعات تُشير إلى خسارة شبه مؤكدة لأي مستقبل سياسي للشخص بعينه، إلا أن التوجه الذي أسّس له صار وازناً في المشهد الأميركي خصوصاً، وفي الغرب الديمقراطي عموماً. ويُجمع من هو أعلم بالشأن الأميركي الداخلي على أن ترامب قد أنهى حياته السياسية من خلال تحشيده ضد الكونغرس. وبالتالي، يتحمّل مسؤولية سياسية أساسية في أحداث الشغب التي عصفت بالكونغرس، وقد تكون مسؤولية جنائية، ربما يحاكم عليها في المستقبل غير البعيد. في المقابل، لم تصل الترامبية إلى نهايتها مع نهاية هذا الرجل، بل هي قد بدت قويةً ومتجذّرة في المجتمع الأميركي المنقسم. وبالتالي، لديها الفرصة لإعادة إنتاج ظواهر مماثلة ربما تحلّـت بالذكاء السياسي أكثر من مؤسّسها.
على الرغم من ممارسةٍ هزليةٍ للسياسة طبعت المشهد الأميركي خلال السنوات الأربع الأخيرة، صوّت 74 مليون مواطن لصاحب هذه الممارسة. وهذه الشعبية لأصحاب المبادرات العشوائية، والجمل المتحرّرة من كل منطق ومن كل قواعد، لا تنحصر بالمشهد الأميركي كما يحلو لبعض الغربيين التأكيد عليه، ولكنها تتمدّد بقوة في دول عدة في أوروبا، كما البرازيل والفيليبين وبعض البلدان العربية. حتى أن كثيرين هم السياسيون الذين ندّدوا بتفاصيل الممارسة الترامبية خلال السنوات الأخيرة على مستوى العلاقات الدولية، كما إدارة الشأن المحلي، صاروا من مريدي هذا المنهج، لما لمسوه فيه من سرعة في الحصول على النتائج، للوصول إلى مقدمة المشهد السياسي. ترامب ذهب والترامبية ترسّخت.