قطّ مذعور
لا أدري ماذا يحدُث حولي، وقد حدَث كل شيء فجأة، سمعتُ صوتا عنيفا هزّ أرجاء البيت الصغير الذي أحبه، والذي أعيش فيه منذ طفولتي وتطاير الزجاج والأثاث، ولم أجد شيئا أفعله سوى الاختباء تحت الأريكة الضخمة، وقد كنت قد اعتدت الاختباء تحتها كلما داعبتْني صديقتي الصغيرة وقرّرت أن أعابثها فأختفي تحتها، وتظلّ تناديني وتغريني، ثم أظهر لها فجأة فتحتضنني، وتربت على شعري وتقدّم لي الطعام.
لا أعرف ماذا حدث سوى أن كل الأصوات قد اختفت حتى صوت البكاء والصراخ وحلّ الظلام. وبقيت تحت الأريكة، ولم أجرؤ على الخروج، ومرّ الليل طويلا، وأنا أرتجف إلى درجة أن قلبي كاد أن يتوقف، وبدأ الجوع ينهش بطني، وكذلك العطش. ولكني لم أجازف للخروج بحثا عن ماء أو طعام، وعاهدت نفسي ألا أخرج إلا حين تعود صاحبتي أو أمها وتناديني باسمي. وقتها سوف أشعر بالأمان وأخرج. وهكذا انكمشت أكثر وبقيت مفتوح العينين أترقّب وأرتجف، حين أسمع الأصوات نفسها تأتي من بعيد، حتى غفوتُ قليلا.
قبل أن أغفو، استرجعت حياتي مع هذه العائلة الصغيرة الطيّبة والمسالمة، وتذكّرت الحوار الأخير الذي دار مع الأم البدينة الحنونة، وهي تخبر ابنتها أنها لا تملك المال لكي تصحبني إلى الطبيب، لأحصل على تطعيم هام، ولكنها تراجعت، وقرّرت أن تفعل، وتخصم تكلفة علاجي وحصولي على التطعيم من مصروف البيت المهترئ.
لا أدري كيف أصف لكم مقدار حبّي هذه المرأة، فأنا أنام إلى جوارها، وتظلّ تمسّد على شعري حتى أغفو، ولكني أستيقظ حين تسقط دمعة من عينيها فوق وجهي، وأعرف أنها حزينة، ولكنها لا تريد أن تخبر أحدا فألتصق بها أكثر، لا أستطيع أن أفعل أكثر وأطلق مواء كي أواسيها. أما حين تستيقظ ابنتاها تضحك وتمازحهما، وتبدأ في الغناء لي وكأن شيئا لم يحدُث.
هكذا طلع النهار وتحقّقت توقعاتي، وسمعتُ حركةً بين الأنقاض، وسمعت صوت صديقتي الكبرى الأم الحنون وهي تناديني، لا تتخيّلوا كم فرحت حين سمعتُ صوتها وكم شعرتُ بحبّي لها، فها هي قد جازفت وعادت إلى مكان الخطر، لكي تبحث عني. وتوجّهت نحو الأريكة التي أختبئ خلفها، ورأيت قدميها ولكنهما هذه المرّة كانتا تسيلان دما، كانت ترتدي خُفّا منزليا متآكل الأطراف، عرفت في ما بعد أنها حصلت عليه من إحدى الجارات حين فرّت حافية.
هكذا شعرتُ بالأمان وسط كل هذه الأصوات المرعبة، وخرجتُ وقفزتُ نحو ذراعيها فضمّتني وبكت، وسمعتها تخبر ابنتها الصغيرة عبر الهاتف أنها قد عثرت عليّ، وبدأت تهرول بي بعيدا عن الأنقاض، وقد وجدت صعوبة في النزول من الدّرج المتصدّع. وأعتقد أنها وجدت صعوبة أكثر وهي تصعده، حتى وصلت إلى مكاني في الطابق المرتفع، وفرحت لأن درجا لا زال في هذه البناية العملاقة.
شعرتُ بالفرحة والذعر معا، وأنا بين أحضان صديقتي وابنتيها في بيتٍ غريب، ومع أناس غرباء بدأوا يلمسونني ويتحسّسون شعري، ويبدون إعجابهم بجمال شكلي، فأطلقت مواءً فهمت منه صديقتي أن عليها أن تختار لي مكانا آمنا في هذا البيت الضيق. وهكذا كنتُ تحت سرير ضخم وقديم، وبدأت تدسّ لي الطعام وتضع أمامي غطاء علبة فارغة فيها قليل من الماء.
لا أفهم ما الذي يحدُث، فالأصوات المرعبة لا تتوقّف أبدا، وأنا أنكمش أكثر وأكثر، وقد بدأ الطعام ينفد. لمست ذلك حين توقّفت الأم الحنون عن تناوله لكي توفر حصّتها لباقي أفراد البيت.
الآن، وبعد أن انتقلنا من مكان إلى مكان، لم تعد صديقتي تقدّم لي سوى بعض فُتات الخبز. ورأيتها تسكب آخر قطراتٍ من قنّينة ماء صغيرة أمامي، فلعقتها بلساني، ومدّت طرف إصبعها نحو هذه القطرات، ثم بلّلت شفتيها.
شعرتُ برغبةٍ بالبكاء، ونظرتُ نحوها، وأريد أن أقول لها إنني لا أريد أن أشرب. ولكني كنت أشعر بالظمأ، فشربت القطرات الأخيرة، ونظرتُ نحوها بامتنان، واختزنت مشاعري المتضاعفة نحوها ونحو ابنتيْها في قلبي.