قطيعة المغرب والاتحاد الأوروبي لن تقع

25 يناير 2023
+ الخط -

لأول مرة منذ ما يناهز ربع قرن، صادق البرلمان الأوروبي على قرارٍ يدين المغرب في مجال حقوق الإنسان، وينتقد الهجمات على حرية الصحافة وحرية التعبير في البلاد. وحظي القرار بتصويت أغلبية ممثلي الشعوب الأوروبية داخل المجلس، وهو يطالب بإطلاق سراح الصحافيين المغاربة المعتقلين والإفراج عن المعتقلين السياسيين، خصوصا معتقلي "حراك الريف"، ومعتقلي الرأي في السجون المغربية، وينتقد تضييق السلطات المغربية على حرية الرأي والتعبير ووضع حدٍّ لأساليبها في مراقبة عمل الصحافيين واستغلال الجنس للإيقاع بالمنتقدين منهم والمغرّدين خارج سربها.

القرار توصية تقدمت بها مجموعات من أقصى اليسار ومن الخضر الأوروبيين. وليست هذه المرّة الأولى التي يتقدّمون فيها بمثل هذه التوصية، لكنها هذه المرة صادفت قلق البرلمانيين الأوروبيين من ادعاءات عن رشوة المغرب برلمانيين من زملائهم خدمة لمصالحه، ما سرّع بتبني التوصية والمصادقة عليها بشبه إجماع كلي، مع استثناءٍ تمثل في معارضة اليمين الفرنسي المتطرّف والنواب الاشتراكيين الإسبان الذين يحرص حزبهم الحاكم في مدريد على عدم إثارة غضب الرباط، خوفا من ردود فعلها في مجال الهجرة، كما حدث في يوليو/ تموز 2021، عندما فتحت السلطات المغربية الباب أمام آلاف المغاربة، بينهم أطفال ونساء، وللمهاجرين من جنوب الصحراء للعبور إلى مدينة سبتة التي تحتلها إسبانيا في أقصى الشمال المغربي، وهو ما تسبّب آنذاك في إدانة للمغرب من البرلمان الأوروبي الذي انتقد استغلال الرباط أطفالا قصّر للضغط على أوروبا في مجال الهجرة.

وفي الرباط، كان للقرار أثر الصدمة الكبيرة، وطوال يومين لم يصدر أي ردّ فعلٍ رسمي، وتجاهلت وسائل الإعلام الرسمية الخبر، قبل أن تبدأ عاصفةٌ من ردود الفعل صادرة عن هيئات مدنية وأحزاب سياسية ومؤسّسات رسمية وأخرى دستورية، كانت أقواها تلك الصادرة عن البرلمان المغربي بغرفتيه الذي لوّح بإعادة النظر في علاقاته بنظيره الأوروبي. ولكن على مستوى مؤسسات القرار المركزية في المغرب، خصوصا وزارة الخارجية المرتبطة مباشرة بالقصر الملكي، على اعتبار أن مجال الدبلوماسية والعلاقات الخارجية يبقى محفوظا للملك، لم يصدر بعد أي رد فعل، ما يفسّر أن مركز صناعة القرار في المغرب يتريث في رد فعله، وينتظر حتى تهدأ حملة "التسخين" التي تقوم بها بعض المؤسسات والأحزاب وهيئات المجتمع المدني وبعض وسائل الإعلام، وكلها ردود فعل متشنّجة تهاجم البرلمان الأوروبي والدول الأوروبية، ليأتي وقت التفاوض وإعادة الأمور إلى نصابها، لأن علاقة المغرب مع الاتحاد الأوروبي لن تنتهي عند هذا القرار الذي خدش صورة المملكة في الخارج، والذي ما كان ليصدر لو لم تكن العلاقات المغربية الفرنسية تمرّ بفترة توتر صامت منذ أكثر من سنة، بما أن البرلمانيين الفرنسيين كانوا دائما يلعبون دور المحامي عن المغرب ومصالحه داخل المجلس التشريعي الأوروبي.

أمام السلطة في المغرب فرصة لإعادة النظر في سياساتها الداخلية، وتنقية بيتها

وبعيدا عن مزايدات برلمانيين وسياسيين مغاربة حملتهم عواطفهم، وربما مصالحهم، إلى الصراخ عاليا، مهاجمين البرلمان والمؤسسات الأوروبية، فهم يدركون، قبل غيرهم، أن أصواتهم، مهما ارتفعت، ستظل مجرّد رجع صدى، لا مصداقية لها، موجّهة إلى الاستهلاك الداخلي، لأن من يقرّر في علاقات المغرب الخارجية وفي خياراته الدبلوماسية هو القصر الملكي عبر وزارة الخارجية. لذلك دعوة البرلمان المغربي إلى إعادة النظر في علاقاته مع نظيره المغربي تبقى غير واقعية، لأن هذه القطيعة لن تقع، بما أن المتضرّر الأول منها سيكون المغرب، الحلقة الأضعف، الذي تجري 70% من مبادلاته التجارية الخارجية مع دول الاتحاد الأوروبي، المستفيد الأول من اتفاقات الشراكة بين الطرفين. وبحكم وجود هذه الاتفاقات، يستفيد المغرب من عديدٍ من برامج المساعدة والدعم التي يقدّمها الاتحاد الأوروبي للمؤسسات المغربية، بما فيها البرلمان المغربي، والمؤسّسات القضائية والأمنية والإعلامية، ومنظمات المجتمع المدني، في إطار مبادرات التعاون ودعم الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان، وهذه الاتفاقات هي التي تعطي للبرلمان الأوروبي الحقّ في تقييم شراكته مع المغرب، وإخضاعها لآلية مراقبته التي تنطوي، من بين ما تنطوي عليه، على استعراض سجلات حقوق الإنسان الخاصة بالدول الشريكة.

لذلك، عندما ستخمد أنفاس المنافحين عن سياسة الهروب إلى الأمام، ودعاة التصرف كأنهم يمثلون دولة عظمى بإمكانات دولة ما زالت تحتاج المساعدات الأوروبية، سيأتي وقت التفكير بحكمة لإعادة قراءة القرار الأوروبي برويّة وهدوء، فالقرار، وبعيدا عن السياق الذي اتخذ فيه وتوقيته وخلفياته ودوافعه ومن يقف خلفه ومن يستفيد منه، وسياسة الكيل بمكيالين عند الأوروبيين التي عرّتها حرب الغرب وروسيا في أوكرانيا، فقد جاء في وقته، وهو بمثابة ناقوس خطر لحالة الانزلاق الخطيرة التي دخلها المغرب منذ إخفاقات "الربيع العربي" وانتصارات "الثورات المضادّة"، التي أتت على الأخضر واليابس، قتلت السياسة وقضت على الإعلام الحر والمستقل، وكمّمت الأصوات الشجاعة، وقلّصت هوامش الحرية والاختيار السياسي، وقوّت شوكة الأجهزة الأمنية والرقابية المسلطة على رقاب الناس والكاتمة أنفاس الحرية. أمام السلطة في المغرب فرصة سانحة لإعادة النظر في سياساتها الداخلية، وتنقية بيتها الداخلي، وإحداث جوّ من الانفراج السياسي يبدأ بطي صفحة الانتهاكات والمضايقات التي تواجه المعارضين وكل أصحاب الأصوات المنتقدة، وتقوية الجبهة الداخلية بمؤسّسات حقيقية منبثقة من إرادة الشعب الحرّة، وبإعلام ذي مصداقية واستقلالية، وإعادة بناء جو من الثقة بين الدولة والمجتمع، لأن المستفيد الأول من هذا الفراغ هو المجهول الذي لا يعرف شكله أو حجمه، عندما سينفجر ذات يوم في وجه الجميع.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).