قطع الأشجار في مصر... اختلال متعدّد الأوجه وتصحّر نظام حكم
عاد النقاش مجدّداً في مصر بشأن قطع الأشجار، بالتزامن مع ارتفاع درجات الحرارة بشكل غير معتاد، واستمرار قطع التيّار الكهربائي ساعات ممتدّة نتاج عجز إمدادات الغاز. وضمن سياقات متنوّعة، بداية من المسألة البيئية واتصالاً بالوضعَيْن، الاقتصادي والسياسي، يتسع نقد سلوك أجهزة حكومية، خلال سنوات متتابعة، تزيل الأشجار وكأنّها تحصدها، وتزداد الأسئلة عن الأسباب والدوائر المُستفيدة من ظاهرة تتسع في القاهرة الكبرى، وتمتدّ في مناطق ريفية، يرصُدها المواطنون في صور متتابعة، قبل الجريمة وبعدها، للتوثيق.
ترتبط الظاهرة بسمات النظام السلطوي في غياب المشاركة في اتّخاذ القرار، وآليات الرقابة، وإخفاق التخطيط ونظم الإدارة، وحضور أشكال من التمييز، تترجم نقصاناً في موازين العدالة، وتُؤكّد في محصّلتها النهائية قسوةً تطاول البشر والحجر والطبيعة، وتزيد سياسات السلطة أوجه الاختلال والتمييز الاجتماعي، وتحقيق مصالح الفئات البيروقراطية والرأسمالية، خصوصاً في ظلّ نموّ قطاع البناء والمقاولات.
أزمة اختلال متعدّدة الأوجه في مصر، ترتبط بتكوين ونهج وسمات الحكم السلطوي، الذي لا يراعي مقتضيات التخطيط العمراني المستدام
للظاهرة صور عدة، فهي تتزامن مع تطوير الطرق والجسور وإقامتها وأعمال تطهير المسطّحات المائية، لكنّها تمتدّ في المناطق التي لا تشهد تطويراً، ما يُفقدها أيّ مسوّغات للتبرير بشأن المصلحة العامّة، كذلك تشمل الاعتداء على الحدائق العامة، وبعضها يحمل طابعاً مميّزاً وتاريخياً، وبتحويل بعض مساحاتها محالّ وأكشاكَ للإيجار، لتجمع أجهزة حكومية حصيلة مالية من أراضٍ وأماكنَ تراها غير مُستغلّة، فتُدخِلها في مفهوم إعادة استخدام الأراضي، وبمعالجة قصيرة النظر وغير كافية، تحاول الإسهام في تمويل ميزانيات الهيئات الحكومية، خصوصاً قطاع المحلّيات، الذي يتعامل مع المساحات الخضراء في أحسن حالاته بأفق استثماري؛ بتحويله أسمدةً أو بتصنيع الأخشاب، أو ببيعه لمصنّعين.
أفق استثماري
أعلن جهاز مدينة السادات، في ديسمبر/ كانون الأول 2014، طرح 300 فدّان من غابات الأشجار للمزايدة، وبحسب بيانات وزارة البيئة، هناك في مصر ثمانية آلاف فدان موزّعة على 34 غابة شجرية في 17 محافظة، تُروى بمياه الصرف الصحّي، أي ليس هناك مُبرّر لقطع الأشجار تحت ترشيد استهلاك المياه التي تُساق بالتزامن مع أزمة سدّ النهضة، وبالإمكان مضاعفة المساحات الخضراء بما يحدّ من التغيّرات المناخية القاسية التي تشهدها مصر، كذلك ستوفّر الغابات الشجرية فرص عمل مع الأخشاب، التي ترتفع أسعارها وتزيد من حالات قطعها قوى الفساد بحثاً عن المال، وكأنّها تعيش آخر أيامها فتنشط في حصاد الشجر، ويبرّر لها بعضهم (قال بجواز قطع الشجر مفتي الجمهورية "من أجل المصلحة العامة" في سبتمبر/ أيلول 2022) بينما يعترف آخرون بوجود أخطاء غير مقصودة، وأنّ ما يجري تهذيب لا قطع أشجار، في تحوير آخر، كتسمية السجون مراكز إصلاح وتأهيل، وقطع الكهرباء تخفيف أحمال، وتعويم الجنيه وبيع الأصول إصلاحاً اقتصادياً وتوسيعاً للملكية.
عملياً، لا تراعي مخطّطات التنمية العمرانية حقّ الناس في مساحات من الخضرة، وتتّفق أغلب البيانات، بما فيها الحكومية، على أن نصيب الفرد منها تقلّص إلى أقلّ من متر، وغير موزّعة بشكل عادل، بينما توصي تقارير لمنظمة الصحّة العالمية، وبرنامج الأمم المتّحدة للبيئة، بألّا تقل عن تسعة أمتار، وتُغفَل أهمّيتها في الحدّ من تلوث سمعي وهوائي (يزيده استهلاك المواد البترولية المتصاعد) وما يترتب عنه من مشكلات ترفع نسب انتشار الأمراض، بخاصّة الصدرية، إضافة إلى القابلية للاكتئاب والقلق والعنف سماتاً للمدن الحديثة عالية الكثافة والتلوّث.
لكن، لا البيئة ولا السكّان، في حالة تفاعلهما، يحملان أهمّية أمام سعار جمع الأموال، ومشاريع إعادة تخطيط الحيّز الجغرافي واستغلاله اقتصادياً، وتلتقي البيروقراطية مع توجّه النظام، الذي يريد تحويل كلّ شيء مصدراً للربح؛ البشر والحجر والأراضي، ويعتبرها موارد اقتصادية يجب استغلالها من دون النظر إلى الكيفية والنتائج البعيدة.
كذلك يخدم مسار التنمية العمراني القائم فئاتٍ تزيد أرباحها من بقاء التصحّر واقعاً، وقطع الأشجار سلوكاً مُستمرّاً، وأحياناً استبدال أشجار بلاستكية بها، تثير التندّر والحزن معاً، غير انتشار ثقافة النجيل الاصطناعي (اللاند سكيب) وتوريدها بالأمر المباشر، تتلاقى المصالح مع ملامح القسوة والتزييف في ثلاثي متّصل، تجمعه السلطة.
"مدينة بلا قلب"
حين وصف الشاعر عبد المعطي حجازي قبل عقود القاهرة مدينةً بلا قلب (كما هو عنوان ديوانه في 1959)، ثم كتب "أشجار الإسمنت" (1989)، قائلاً: "هذا شجر الإسمنت في كل مكانِ/ يتمطّى، ويخورْ كالشياطينِ/ ويصطاد العصافيرَ التي تسقط كالأحجارِ/ في أجهزِة الرادار"، لم تكن المدينة التي يشكو قسوتها، بهذا التدهور البيئي والعمراني، وكان عدد السكان أقلّ، وملامح دور الدولة ما زالت باقية، وتأثيرات التفاوت الطبقي في العمران لم تكن بهذا الوضوح، وكذلك التباين الذي يخلق أشكالاً من الاستبعاد الاجتماعي. ولم تكن جرائم قطع الأشجار بهذه الكيفية، ولا التبريرات بهذه الكثافة، كما القول بتسهيل مهمات المُراقبة الأمنية، أو إنشاء جسور، وهي في أغلبها معدنية تفتقد الحسّ الجمالي، أقرب إلى تحصينات في حرب، وطرق بلا أشجار ولا ظلّ، إلّا انعكاس صورة من ينفّذها.
وفي الوقت الذي تقطع الأشجار، تمارس السلطة دعايتها حول مجابهة التغيّرات المناخية، لتستفيد من حملات تمويل تقدّرها بمائة مليار دولار حتّى 2030، تحصّلت فعلياً على جزء منها استثماراتٍ خضراء ومِنَحَاً لتنفيذ مشروعات، بعضها ضخم ومهم، لكنّه تعثّر. قبل عام (مايو/ أيّار 2023) عرضت الحكومة للبيع حصص ثلاث محطّات ضخمة لإنتاج الكهرباء، ضمن منشآت الطاقة النظيفة، في وقت تشتدّ فيه أزمة الطاقة. نفّذت أيضاً، مناطق تراعي متطلّبات السكن الملائم بتعاون دولي (مخطط بناء 14 مدينة ذكية)، لكنّها ما زالت محدودة عدديّاً، مرتفعة الثمن، يُقبِل عليها في الأغلب الأجانب والأغنياء، أو هي في حيازة طبقة مُعولَمة بمعنى آخر، وما زال كثيرٌ من المشروعات المناخية يعتريها طابَعٌ استعراضي. دشّنت وزارة البيئة حملة "ECO EGYPT" لتعزيز السياحة، وهي ضمن المبادرة الرئاسية "اتحضّر للأخضر". وللمفارقة، أو ربّما لإثبات ما يلحق بها من زيف، شاركت فيها منذ التأسيس مصمّمة الغرافيك غادة والي، وحصلت الحملة على تمويلات من برنامج الأمم المتّحدة الإنمائي ومرفق البيئة العالمية، بينما "سقط" الموقع الرسمي للحملة، الذى أنشأته شركة والي، مع تصميمات ومنتجات الدعاية، بعد تعرّضها للهجوم والمحاكمة بتهمة سرقة رسوم وتصميمات مشروع تجميل المترو – الخطر الأخضر. وربّما يُوضّح المثال قدر الدعاية حول قضايا المناخ، ويثبت أنّ دوائر التربّح ليست قاصرةً على فئات بيروقراطية، غير أنّ التغنّي بالحدّ من آثار التغيير المناخي تتجاوز أجهزة حكومية العتبات الأولى لمواجهته عبر قطع الأشجار.
ترتبط ظاهرة قطع الأشجار بسمات النظام السلطوي في غياب المشاركة في اتخاذ القرار، وآليات الرقابة، وإخفاق التخطيط ونظم الإدارة
وفي هذا السياق، ليس مقنعاً الحديث عن مشاريع هُويّة بصرية للعاصمة والمدن السياحية (شاركت في صياغته غادة والي أيضاً) للمساهمة في زيادة عدد السائحين (30 مليون سائحٍ سنويّاً)، بينما تتقلّص المساحات الخضراء، وتتعرّض العاصمة للإهمال (منها شوارع وسط البلد)، بعدما قرّرت الحكومة الهجرة من القاهرة وبيع مبانيها التاريخية، والانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة، التي تحوي حدائق مُتّسعة. وبالمثل، ينتقل الأثرياء، وفئات من الطبقات الحاكمة، إلى مدن جديدة، وتستمرّ إدارة القاهرة على حالها المتدهور، وتفتح أبوابها للانتهازيين للتغنّي باسم البيئة والعمران والسكن الملائم.
مساحات خضراء تحت ظلال سلطوية
واتصالاً بسمات سلطوية، تحمل الظاهرة دلالات رمزية بشأن إدارة لا ينجو من شرّها شجر أو بشر، تتوحّش حتّى على الطبيعة، ويبقى ظلّها لهيباً، وهي تستنزف الموارد، كلّ الموارد، ما يزيد التشكّك في قدرتها ونزاهتها وصلاتها بالمحكومين، وحتّى سلوكها هذا يخلخل ثقة المموّلين والمانحين الدوليين، وفي الوقت الذي تفاوض صندوق النقد على حزمة تمويل بقيمة 1.2 مليار دولار، لتعزيز سياساتها المناخية، تستمر أعمال قطع الأشجار.
وفي مشهد يتلاقى خلاله الإهمال والتمييز الطبقي معاً، وبالتوازي والاتصال بالنمط العمراني الفاقد للاستدامة، لا تحتوي أغلب المجتمعات العمرانية الجديدة على مساحات خضراء مناسبة، رغم أنّ معظمها أقيمت في الصحراء، ما يوفّر أولاً مساحة للتشجير، وثانياً يمثّل ضرورة بيئية لحماية السكان، خصوصاً في تلك التجمّعات المجاورة للمناطق الصناعية، كما "العبور الجديدة" و"6 أكتوبر الجديدة"، وثالثاً، وفي مدى مستقبلي، يخفّف تكاليف التكلف وتداعياته، إلّا أنّها لم تراعِ المقاييس والاحتياجات البيئية، وشكا بعض سكانها من مشكلات بيئية بما يخالف تصريحات وزير الأسكان بأنّ ربع المدن الجديدة مساحتها خضراء، وهذا غير مُتحقّق في الإسكان الاجتماعي مثالاً، بما يُؤكّد الانحيازات الطبقية في مشاريع التنمية.
وكذلك أثار الانجرار للاستثمار العقاري، الذى يفرض الحفاظ على التمايز وعلاقات سوق تحقّق الربح، لأنّ مساحات الخضرة تتحوّل سلعةً تزيد أسعار المساكن التي تشتريها الفئات الميسورة، وتبنيها وتروّج لها شركات عقارية كبرى، ودخلت فيها الدولة مستثمراً، تبيع وحدات بعض مشاريعها بأسعار باهظة لأنّها مستدامة، بينما لا تكترث لجودة الحياة في مناطق الإسكان الاجتماعي وأحيانا المتوسّط، غير مناطق قديمة وأخرى غير مُخطّطة، يدفع فيها السكان تكاليف المشكلات البيئية بدرجة أكبر، ويكونون الأكثر تضرّراً منها في مناطق تفتقر إلى الاستدامة.
تظلّ قسوة المدينة باقية، وانفصال النمط العمراني عن احتجاجات الناس حقيقة مؤلمة ومتوارثة عبر الأجيال وتتزيد، تخلقها خطوط الاتصال بين قسوة الإدارة والحكم في نظام سلطوي يشكّل العمران، ويُغيّب العدالة البيئية، ويُرسّخ نمطاً عمرانياً بائساً. تأتي ردود الجهات الحكومية والوزارات المتخصّصة ما بين التبرير والنفي، فتعتبر بعض حالات قطع الأشجار استجابة لشكوى الأهالي من حجب الرؤية، أو إجراءً أمنياً ضرورياً لأعمال كاميرات المراقبة، أو لصيقة الصلة بتوسيع طرق.
وجوه متعدّدة لاختلال
قبل عقود، وصف الشاعر المصري عبد المعطي حجازي المدينة بأنّها "المقفرة والتي تمضي فيها أشباح الناس تباعاً"، وقال: "شوارع المدينة الكبيرة/ قيعان نار/ يجترّ في الظهيرة/ ما شربته في الضحى من اللّهيب/ يا ويله من لم يصادف غير شمسها/ غير البناء والسياج، والبناء والسياج/ غير الربّعات، والمثلّثات، والزجاج"، في إشارة إلى قسوة طابع المدينة العمراني، وخلّوها من الخضرة.
وفي الأحوال كلّها، لا تقدم البيانات الحكومية ردوداً مُقنعةً، حول المُستفيد من تقليص الغطاء الأخضر، ومع غياب المعلومات والشفافية إحدى سمات السلطوية، تختلط الحقائق مع الاستنتاجات غير الدقيقة، كما تفسير رائج يربط الظاهرة بقرار كولومبيا، أخيراً، وقف تصدير الفحم لإسرائيل، وأنّ القاهرة تدخل على الخط لحلّ الأزمة بإمدادات الفحم، ورغم اقتراب السردية لمفهوم المؤامرة، وعدم وجود قرائن دالّة من إحصائيات، وأنّ قطع الأشجار ممتدّ منذ سنوات، وطُرِح برلمانياً منذ 2018، إلا أنّ الاتهام والتشكيك يشيران إلى نقصان الثقة بالنظام، ويربط بين أزماته المحلّية، وسياساته الخارجية، تجاه المُحتلّ، الذي يتمركز في الحدود أيضاً.
وردّاً على غضبٍ من قطع الأشجار، تنشط وسائل إعلام في نشر تقارير عن حملات التشجير ومبادراته، وتُصدر وزارات بياناتٍ، ويتكشف أنّ تنفيذ خطط زراعة مائة مليون شجرة لم ينجز منها إلا اليسير، حتّى مع تضارب الأرقام وزيادتها أخيراً، وتنفي وزارة البيئة تورّطها، وتسعى لعقد حوار مجتمعي حول الظاهرة، وكأنّها تُشير إلى وجود فئات مستفيدة، بينما هي تشهر نزاهتها.
في وقت تقطع فيه الأشجار، تمارس السلطة دعايتها حول مجابهة التغيّرات المناخية لتستفيد من حملات تمويل بـ100 مليار دولار حتّى 2030
خاتمة
يمكن القول إنّنا أمام أزمة اختلال متعدّدة الأوجه، ترتبط بتكوين ونهج وسمات الحكم السلطوي، الذي لا يراعي مقتضيات التخطيط العمراني المستدام، ولا حقوق السكّان، الذين يفتقدون مع بني الاستبداد إمكانية المشاركة في صياغة الخطط والقرارات والمحاسبة والرقابة، فلا برلمان فاعل، ولا مجالس محلّية منتخبة منذ عام 2008 تدير الأحياء وتقوم بدورها. على جانب آخر، تساهم السلطوية في الحد من مساحات العمل الأهلي الذي يمكن أن يعالج جزئياً مسألة تقلّص المساحات الخضراء، بل جوبهت شكاوى ومبادرات بالتهديد، وتفتقد السلطة قواعد اتصال مع المجتمع، والاستفادة من خبراء يعملون في الجامعات أو منظّمات دولية، غير الاسترشاد بتجارب نجاح.
ويبدو أن الأزمة الاقتصادية تحيل كلّ قيمة ومورد إلى أداة للاستغلال، بما في ذلك الغطاء الشجري، وكلّ حيّز جغرافي يمكن أن يكون مصدراً للربح والمال، وإنّ النظم السلطوية في موضوعات بيئية تجنح نحو الدعاية، وفي الممارسة العملية غالباً ما يكون لديها حالة قصر نظر، تتجاهل نتائج تقليص المساحات الخضراء، وتساهم في تدمير البيئة، وهي ضمن تجارب نظم عسكرية، وقوى خارجية حين تهيمن على بلد أو منطقة جغرافية فإنّها تجور على حقوق السكّان الأصليين.