قضية الريسوني والراضي في المغرب
عندما يُنشر هذا المقال، يكون قد مضى أكثر من 20 يوما من الإضراب عن الطعام الذي يخوضه صحافيان مغربيان معتقلان، سليمان الريسوني، آخر رئيس تحرير لصحيفة "أخبار اليوم" التي كانت من آخر الصحف الورقية المستقلة في المغرب قبل أن تتوقف عن الصدور لأسباب مادية قبل أسابيع، وعمر الراضي، صحافي مستقل عرف بتحقيقاته الاستقصائية الجريئة. وكلاهما رهن الاعتقال الاحتياطي بدون محاكمة، منذ أكثر من 11 شهرا للريسوني، وأكثر من تسعة أشهر للراضي. ويطالب دفاعهما، ومعه منظمات حقوقية مغربية ودولية كثيرة بالإفراج عنهما ومتابعتهما في حالة سراح، خصوصا أنهما ما زالا في موضع الشبهة التي تنتظر من القضاء أن يؤكدها أو ينفيها من خلال محاكمة عادلة. وهذا هو المطلب الثاني الذي ينادي به كل من يناصر الصحافيين في محنتهما، وقد اتسعت دائرة المناصرين أكثر منذ بدأ اثناهما إضرابهما عن الطعام الذي يهدّد حياتيهما في كل لحظة بسبب فقدان الوزن والأمراض التي يعانيان منها.
شهدت قضية الصحافيين المضربين عن الطعام تعاطفا متزايدا من زملائهما
عرف سليمان الريسوني بافتتاحياته اللاذعة التي تنتقد الأوضاع في المغرب، وبجرأته الكبيرة بتسمية الأشياء بمسمياتها. نجحت افتتاحياته في وقت قصير في أن تحطم تابوهات كثيرة، وفي الوقت نفسه في أن تسبب له مضايقات كثيرة، أدّت به، في النهاية، إلى الاعتقال، بدعوى التحقيق في "اعتداءات جنسية" نُسبت له. ومنذ اعتقاله الذي مضى عليه زهاء العام، ظل الريسوني في السجن بدون محاكمة، وكان مطلبه الوحيد متابعته في حالة سراح، خصوصا في غياب أي أدلة مادية تدينه. أما عمر الراضي فقد عرف بتحقيقاته الاستقصائية التي تنبش في قضايا الفساد في المغرب، وهو ما جعل جلده مطلوبا من أكثر من جهة، يزعجها نبشه في خبايا الصفقات المشبوهة، وفي سياسة الريع التي يستفيد منها بعض كبار مسؤولي الدولة. وحتى قٌبيل اعتقاله، تعرّض الراضي للتوقيف عدة مرات، وخضع لسلسلة تحقيقات ماراثونية، وكان موضوع مراقبة لصيقة تتجسّس على اتصالاته، حسب ما كشف تقرير لمنظمة العفو الدولية. وانتهت هذا الملاحقات والمضايقات باعتقاله قبل تسعة أشهر، ووجهت له أكثر من تهمة، تتعلق بالمس بسلامة الدولة، والتخابر مع عملاء دولة أجنبية، بالإضافة إلى قضية اغتصاب، وكلها تهم ظل الراضي ينفيها، ويقول إن الغرض منها إسكات صوته. وفي المقابل، يطالب بمتابعته في حالة سراح، خصوصا بعد أن طالت فترة سجنه بدون محاكمة.
النظام المغربي أكبر متضرّر من الصورة التي تزداد قتامة في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية
كان لمثل هذه المتابعات أن تكون طبيعية، لو أن الصحافيين توبعا في حالة سراح، خصوصا أن الأدلة غير متوفرة في الحالتين، كما أنهما ودفاعهما مستعدّون لتقديم كل الضمانات بحضورهما أمام محكمةٍ تضمن لهما شروط المحاكمة العادلة. والحال أن أهم هذه الشروط تمتيعهما بالسراح المؤقت، لإعداد دفاعمها بكل حرية، فهما صرّحا أكثر من مرة، قبل اعتقالهما، عن احترامهما القضاء وخضوعهما للقانون الذي يجب أن يتساوى أمامه الجميع.
وداخل الوسط الإعلامي، تشهد قضية الصحافيين المضربين عن الطعام تعاطفا متزايدا من زملائهما. وقبل أسبوعين، وقع أكثر من مائتي صحافية وصحافي مغربي عريضة عبروا فيها عن "قلقهم الكبير" على مصيرهما، في حالة استمرار في إضرابهما المفتوح عن الطعام، واستنكروا "الانتهاك المتكرّر لقرينة البراءة" و"الإفلات من العقاب" الذي تتمتع به صحافة التشهير في المغرب، المحمية من جهات نافذة داخل الدولة. وهي الصحافة التي لعبت أدوارا سيئة في التشهير بهما، قبل اعتقالهما، ولطخت سمعتهما ودانتهما قبل أن يوجه لهما القضاء أيا من التهم التي يُتابعان بها. وهذا النوع من الصحافة التي ازدهرت مع انحسار ثورات الربيع العربي، واتساع رقعة تأثير الثورات المضادّة القادمة من الشرق، تحوّلت إلى "نيابات عامة" تنهش أعراض أصحاب الأصوات المعارضة والمنتقدة والممانعة، وأحيانا حتى المختلفة أو فقط المستقلة، تصنع لها الملفات القضائية، وتأمر بالاعتقال، وتوجه الاتهامات، وتصدر الأحكام وتنفذها مع سبق إصرار وترصد.
هل من صوت حكيم يدقّ ناقوس الخطر في المدينة قبل أن تقع الكارثة؟
ترتفع اليوم أصوات رصينة وهادئة داخل المغرب وخارجه، مطالبة باتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة لتصحيح هذا الوضع، مع حفظ حقوق كل الأطراف الأخرى المدّعية في كلتا القضيتين، بما يضمن للجميع الحق في محاكمة عادلة وشفافة، واستحضار صوت العقل لتغليب منطق الحكمة على الرغبة في الانتقام من قلمين صحافيين جريئين كل تهمها الحقيقية صراحتهما وقدرتهما على تخطّي خطوط حمراء تُسيّج الهامش الصغير المتبقي من حرية الصحافة في المغرب.
لقد حافظ المغرب، على الرغم من زحف الثورة المضادّة، على هامش ضيق من الحرية هو الذي سمح بظهور أسماء صحافية عصامية ومستقلة، مثل سليمان الريسوني وعمر الراضي، حتى في ظل غياب الصحافة المستقلة التي نجحت السلطة في القضاء عليها تدريجيا بالترهيب أو الترغيب أو عن طريق "القتل الرحيم" من خلال الخنق الاقتصادي البطيء. وحتى هذا الهامش الضيق يزداد ضيقا يوما بعد يوما لمحاصرة آخر الأصوات التي ما زالت تجرؤ على النقد أو المعارضة. والحقيقة المحزنة أن المغرب الذي لم يشهد اضطرابات مثل التي شهدتها دول المنطقة، ونظامه يحظى بشرعية لا ينازعه فيها أحد في الداخل، ونحج، إلى حدّ ما، في احتواء وباء كورونا وتداعياته الصحية والاقتصادية والاجتماعية بوسائله الذاتية، هو أكبر متضرّر من الصورة التي تزداد قتامة في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية، فهل من صوت حكيم يدقّ ناقوس الخطر في المدينة قبل أن تقع الكارثة؟