قصة مسجديْن: من درعا إلى غزّة

قصة مسجديْن: من درعا إلى غزّة

22 مارس 2024

يمينًا: المسجد العمري في غزّة (27/1/2024/ الأناضول) والمسجد العمري في درعا (وسائل التواصل)

+ الخط -

مجموعة من الشبّان يصعدون إلى مئذنة الجامع العمري في قلب مدينة درعا، ويرفعون علم الثورة السورية، الذي يرفرف في سماء لواء حوران الأزرق المبشّر بربيع جميل. الشبان وعلى المئذنة بحجارة القناطر، المنتشرة في المنطقة، وباللون التقليدي لها، بعد ترميمها، بعدما تضررت بفعل قصف قوات النظام لأكثر من مرة، يرفعون علم الثورة السورية، وفي ذكرى انطلاقها، من الجامع ذاته، قبل ثلاثة عشر عاماً، هذه الصورة باتت أيقونيّة بامتياز، انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، بين أوساط الناشطين السوريين، وتحمل دلالات مهمة، في مقدّمتها أن هؤلاء الشبّان ما زالت الثورة حيّة لديهم، رغم الانتصار المنقوص للنظام، والقتل، والتهجير، فنحن نتحدّث عن جيل جديد، في درعا، ما زالوا يروْن أن الثورة مستمرّة.

اكتسب الجامع العمري في درعا طابعاً ترميزياً كبيراً ارتبط بالثورة السورية، فمنها بدأت شرارة حركة الاحتجاج على اعتقال شبّان من الأمن السوري، وشيخها أحمد الصياصنة، وصف بـ"خطيب الثورة السورية"، وهدمت مئذنة الجامع عام 2013، بفعل القصف من النظام، وكذلك تأذت المئذنة نفسها، عام 2022، في مؤشّر إلى فشل الاتفاقات التي صيغت بين النظام وروسيا من جانب والمعارضة من جانب آخر.

تعرّض هذا الجامع، ببنائه التقليدي، منذ بناه الخليفة عمر بن الخطاب في القرن الرابع عشر للهجرة، لترميمات متتابعة، إلا أنه، حسب من زاروه، مبنيٌّ على نمط تقليدي، بحيث تؤدّي أبوابه (الثلاثة هنا) إلى ساحة أو صحن يتوسّط أروقة المسجد. وغير بعيد عن درعا، يقع مسجد آخر، أو بقايا مسجد في مدينة غزّة القديمة، تحديداً، ببناء معماري شبيه، بأروقة تحتضن صحناً، ومئذنةً كانت شامخة، ووفق الصور الواردة، جرى تدميرها بالقصف الإسرائيلي بشكل شبه كلي، ليُضاف إلى تاريخ هذا المسجد شاهد جديد على ما عاناه أهل القطاع على مر السنوات.

يقال إن المسجد العمري الكبير، في غزّة، حوّل من كنيسةٍ بيزنطية في الحقبة التي بني فيها الجامع العمري في درعا. ويكتسب المسجدان في غزّة ودرعا رمزية عالية، وبأشكال مختلفة، ويرويان كيف يبقى الحجر شاهداً على تاريخ البشر. ولعلّ في قصة المسجدين ما يشير إلى أن "هذا الوقت سيمضي"، فالمسجد الكبير في غزّة فيه مكتبة ضخمة، تعرّضت للعبث في أطوار مختلفة، ومثل ساحة الجامع العمري عام 2011، كانت ساحته شاهدة على أحداث تاريخية مهمّة في التاريخ الفلسطيني.

رفع علم الثورة السورية على مئذنة جامع مشبع بالرموز المرتبطة بالثورة يعبّر عن دلالة ارتباط الأماكن بذاكرة الناس

تتعدّد المساجد "العمرية" في المنطقة العربية، وأغلبها تُنسب لعمر بن الخطاب (بيروت، وعجلون، واللد... إلخ)، لكن حالتي غزّة ودرعا تثيران أفكاراً كثيرة للتدبّر بحكم الظرف السياسي والصراع الذي مرّت وتمرّ به حالياً. ولعل رفع علم الثورة السورية على مئذنة جامع مشبع بالرموز المرتبطة بالثورة هناك يعبر عن دلالة ارتباط الأماكن بذاكرة الناس، خصوصاً إذا ارتبطت بفعل سياسي قاس ووحشي، ولعلّ هذا المثال يتّضح في غزّة اليوم أيضاً.

الترميز مهم وأساسي، كما أوضح مسبقا، ولكن على المستوى السياسي أيضاً لا يمكن فصل رفع علم الثورة السورية على مئذنة الجامع العمري عن التحوّلات في المنطقة العربية ما بعد 7 أكتوبر/ تشرين الأول، ففي الحالة السورية، هناك جيلٌ يرى أن الثورة لم تكتمل، ورغم محاولات الإجهاض والإقصاء، فإنه ما زال مؤمناً بها، ومن المفارقة أن هذا الإصرار (وإنْ كان رمزياً ولا يجب أن يقرأ حالياً، وأكرّر، حالياً فقط، إلا بجانبه الرمزي)، فإنه يأتي في وقتٍ يشهد فيه معسكر إيران (وروسيا بدرجة أقل، وهما الداعمان الرئيسيان لنظام بشار الأسد)، صعوداً، في القبول/ الرضا الشعبي العربي عنها بعد الحرب في غزّة، وهذا يعني أن نسب تأييد الثوار السوريين لن تكون كما كانت من قبل لو عادت الحركات أو التنسيقيات إلى الشارع. وفي المقابل، ومع تزايد الدمار، والتجويع، والمقتلة البشرية في غزّة، وعدم وجود دور إيراني أو روسي في وقفها أو التخفيف منها، فإن هذا لا يعني أن مثل هذا الرضا أو القبول سيستمر، فسؤال اليوم التالي في غزّة (وبغضّ النظر عن مدلولات إسرائيل السلبية للمصطلح)، بات أكثر فجاجةً ووضوحاً مؤلماً لكثيرين. وبالتالي، سيكون الجيل الجديد غير الراضي عن واقعه، وعن سرقة أحلامه في المنطقة، لاعباً جديداً لا محالة في المستقبل المنظور، وبغضّ النظر عن رأي الحلفاء الإقليميين، وهو ما يعني توتراتٍ أكثر بطبيعة الحال.

الأماكن، وترميزها، لطالما لعبت دوراً أساسياً في إبقاء الذاكرة حية، وفي إبقاء التاريخ حياً، قادراً على بثّ الأمل في الاستمرار. وفي ظل المأساة المتزايدة في غزّة، فإن أماكن كثيرة ستلعب مثل هذا الدور، ولعل إحداها المسجد العمري الكبير الشاهد على تاريخ غزّة الغني والحزين، لكن قصّة المسجديْن في غزّة ودرعا، وتداعياتهما الجيوبوليتيكية المحتملة، تذكّران بمقدّمة الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز في رواية "قصة مدينتين" عن تناقضات تفسير هذه الأزمنة بين الأحسن والأسوأ، وبين عصري الحكمة والحماقة في آن، ولعل هذه التناقضات تفسّر المستقبل القريب في المنطقة بتعزيز تلك التناقضات، ولا نعرف إن كنّا في طريقنا إلى الجنة أم في طريقنا إلى الجحيم، أم نمشي في اتجاهيْن متناقضيْن في آن، كما يقول ديكنز.

مراد بطل الشيشاني
مراد بطل الشيشاني
كاتب وإعلامي أردني، مراسل متجول، ماجستير في العلوم الإنسانية.