قراءة في خطاب بايدن عن "حالة الاتحاد"

18 فبراير 2023

بايدن يلقي خطاب "حالة الاتحاد" أمام الكونغرس (8/2/2023/الأناضول)

+ الخط -

استغرق الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي، بايدن، أمام الكونغرس بمجلسيه، يوم 8 فبراير/ شباط الحالي، عن "حالة الاتحاد"، حوالي 75 دقيقة، وهي فترة طويلة نسبيا، وشغل نصه المكتوب حيزا لا يقل عن 34 صفحة من القطع المتوسط. ولأنه كان أول خطابٍ يلقيه الرئيس الأميركي عن "حالة الاتحاد" بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا في 26 فبراير/شباط من العام الماضي، وهو حدث جللٌ له تأثيرات كبرى على مجمل الأوضاع الدولية، تصل إلى حد التهديد باندلاع حرب عالمية ثالثة، فقد كان من المتوقع أن يولي بايدن موضوع الحرب في أوكرانيا قدرا كبيرا من الاهتمام، خصوصا أن خطاب "حالة الاتحاد" السنوي تنتظره الملايين داخل الولايات المتحدة وخارجها، للتعرّف إلى مواقف الإدارة الأميركية وتوجهاتها، لكنه لم يفعل، فقد اكتفى بايدن بتلميحاتٍ عابرةٍ عن هذا الموضوع، مؤكّدا من جديد أن حرب بوتين على أوكرانيا عدوانية تهدّد أوروبا والعالم، وأن الولايات المتحدة ستواصل تقديم كلّ ما يمكنها من دعم لأوكرانيا، مهما طال أمد هذه الحرب.

لم تكن الحرب الأوكرانية المسألة الوحيدة التي لم يُعرها بايدن الاهتمام المتوقع في خطابه، فقد أهمل في الواقع معظم القضايا الدولية والإقليمية التي تشغل بال العالم، بما في ذلك العلاقة المتوتّرة مع الصين، حيث اكتفى بايدن بالإشارة إلى أن الولايات المتحدة لا تسعى إلى الدخول في صراع مع الصين، لكنها مصمّمة، في الوقت نفسه، على التنافس معها بقوة في مختلف المجالات، وعلى عدم السماح للصين بالتفوّق على الولايات المتحدة في أي مجال، خصوصا في المجالات التي تشكّل، أكثر من غيرها، قاطرة لتقدّم العلم والتكنولوجيا. لذا خلا خطاب "حالة الاتحاد" هذا العام من أي إشارة إلى مفاوضات البرنامج النووي الإيراني، ولم يتعرّض للتصعيد الذي يشهده الصراع العربي الإسرائيلي، خصوصا بعد وصول أكثر الحكومات تطرّفا في تاريخ إسرائيل إلى مواقع السلطة في تل أبيب، وخلا من الإشارة إلى أزماتٍ أخرى عديدة، تهدّد الاستقرار في العالم، كالأزمات التي يعاني منها الاقتصاد العالمي في ظل الارتفاع الكبير في أسعار الطاقة والحبوب، خصوصا دول الجنوب، مكتفيا بإشارة عابرة إلى مسؤولية بوتين عن هذا الوضع، بسبب إقدامه على شن الحرب على أوكرانيا، ما يعني ضمنا تنصّل الولايات المتحدة من تحمّل أي مسؤولية في هذا الصدد، بسبب العقوبات الاقتصادية الشاملة التي قرّرت فرضها على روسيا.

حرص بايدن على التعاون مع الحزب الجمهوري، بما يحقق صالح الولايات المتحدة، لم يمنعه من الاعتراف بوجود خلافات أيديولوجية عميقة معه في قضايا محدّدة

في المقابل، خصّص بايدن جل خطابه لمعالجة قضايا الداخل الأميركي، مركّزا في هذا الصدد على مسألتين رئيسيتين: ما حقّقته إدارته من إنجازات في مختلف المجالات، وحرص إدارته الديمقراطية على التعاون مع الحزب الجمهوري الذي أصبح يسيطر على مجلس النواب، والعمل على تجاوز الخلافات الأيديوجية والصراعات الحزبية في كلّ ما يحقق المصالح الأميركية العليا، أملا في استكمال ما تم إنجازه خلال العامين الماضيين، وللوصول بمكانة الولايات المتحدة في العالم إلى المستوى الذي يتطلّع إليه كل مواطن أميركي.

أهم القضايا الداخلية التي ركّز عليها بايدن في خطابه. أولا: الاقتصاد. أشار إلى أنه تسلم الاقتصاد الأميركي وهو في حالةٍ يُرثى لها، لأسباب تتعلق بسياسات خاطئة انتهجتها إدارة ترامب، وأيضا بجائحة كورونا التي أحدثت حالة أقرب إلى الشلل، لكنه أكّد، في الوقت نفسه، على أن الاقتصاد الأميركي عاد إلى الدوران بكامل طاقته، حيث أمكن إيجاد ما يقرب من 12 مليون وظيفة خلال العامين الماضيين، وتدنّت نسبة البطالة إلى أقلّ مستوياتها في 50 عاما، حيث لم تعد تتجاوز 13.4%. وقد اشاد، في هذا الصدد، بدعم الحزب الجمهوري قوانين أدّت إلى تنشيط الصناعة، من ناحية، وإلى رصد اعتمادات ضخمة لتجديد البنية التحتية، من ناحية أخرى، ما أدّى إلى الشروع في تنفيذ ما يقرب من عشرين ألف مشروع تخص البنية التحتية، معتبرا ذلك نموذجا للفائدة التي يمكن أن تعود على الولايات المتحدة ككل من التعاون بين الحزبين الكبيرين، ودعاهما إلى التعاون في تمرير قوانين أخرى، تستهدف تقوية الاقتصاد وتقليص العجز، بما في ذلك رفع سقف الديون البالغ 34.1 تريليون دولار.

كان بايدن يلقي خطابه عن "حالة الاتحاد" هذا العام وعينه على انتخابات الرئاسة الأميركية التي يبدو أنه عازم على خوضها

ولم يفت بايدن أن يشير، في هذا الصدد، إلى ما تحقق من إنجازات في قطاعاتٍ إنتاجية مهمة، مثل إنتاج أشباه الموصلات semiconductors، والتي اعتبرها اختراعا أميركيا في الأساس، فقد ذكر أن الولايات المتحدة كانت تصدّر 40% من إجمالي الإنتاج العالمي من هذه السلعة الحيوية، لكن هذه النسبة انخفضت إلى أقلّ من 10%، إلى درجة أن الصناعات الأميركية نفسها أصبحت عاجزة عن تغطية احتياجاتها منها، مؤكّدا أن إدارته أصدرت التشريعات الكفيلة بمعالجة هذا الوضع، وأصبحت الولايات المتحدة الآن في وضعٍ يسمح لها باستعادة المكانة اللائقة بها في هذا المجال الحيوي الذي أصبحت معظم الصناعات الأساسية تعتمد عليه بشكل مباشر.

ثانيا: العدالة الاجتماعية: حرص بايدن على التعاون مع الحزب الجمهوري، بما يحقق صالح الولايات المتحدة، لم يمنعه من الاعتراف بوجود خلافات أيديولوجية عميقة معه في قضايا محدّدة، منها محاربة الاحتكارات الكبرى، والحاجة لفرض ضرائب متصاعدة على الأغنياء، فقد دعا بايدن إلى اتخاذ إجراءات صارمة ضد الاحتكار الذي تمارسه بعض الشركات الكبرى، مؤكّدا أن "الرأسمالية بدون منافسة ليست رأسمالية، بل ابتزاز واستغلال"، ومسلّطا الضوء على جهود تبذلها إدارته لمنع الاحتكار وتنشيط المنافسة. وبعد أن أشار إلى أن 55 شركة أميركية كبرى حققت في عام 2020 أرباحا تصل إلى 40 بليون دولار، من دون أن تدفع سنتا واحدا من الضرائب، أكّد أن هذه الشركات يجب أن تدفع نصيبها العادل، وأن القانون الجديد سيلزمها دفع ضرائب تصل إلى 15%، لكنه حرص، في الوقت نفسه، على إعفاء كل من يبلغ دخله السنوي أقل من أربعمائة ألف دولار من تحمّل أي ضرائب جديدة. وكان لافتا للنظر إشارته إلى أنه حين دخل البيت الأبيض كان عدد البليونيرات في الولايات المتحدة 60 فقط، وصل حاليا إلى ألف، لكن نسبة ما يدفعونه من ضرائب لا تتجاوز النسبة التي يدفعها مدرّس أو رجل إطفاء، وهو وضع غير عادل.

ثالثا: حالة الديمقراطية الأميركية: خصّص بايدن جزءاً كبيراً من خطابه للحديث عن أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة، والتي تعرّضت لتهديد حقيقي في أعقاب اقتحام أنصار الرئيس ترامب مبنى الكونغرس في 6 يناير/ كانون الثاني 2021، أملا في وقف التصديق على الانتخابات الرئاسية لعام 2020، وحثّ الأميركيين على إظهار رفضهم القاطع لممارسة العنف والتطرّف في مجال التعبير عن آراء سياسية، كما دعا القادة السياسيين إلى إدانتهما، وندّد بالهجوم الذي وقع يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول على زوج الرئيسة السابقة لمجلس النواب، نانسي بيلوسي، مؤكّدا أن المهاجم استخدم المفردات نفسها التي سبق لمقتحمي مبنى الكونغرس استخدامها. ورغم ما أبداه بايدن من انزعاج وقلق بسبب التهديد الذي تتعرّض له الديمقراطية الأميركية، إلا أنه عبّر، في الوقت نفسه، عن إيمانه الراسخ بعمق جذورها وبقدرتها على تجاوز الصعاب التي تتعرّض لها في المرحلة الراهنة.

دعا الكونغرس إلى استعادة حق الإجهاض، وتعهّد باستخدام حق النقض ضد أي حظر للإجهاض يصل إلى مكتبه

رابعا: تجاوزات الشرطة وحيازة الأسلحة: عبّر بايدن عن قلقه إزاء الحوادث المتكرّرة التي كشفت عن تجاوزات من بعض رجال الشرطة الأميركية المتهمة حاليا بممارسة العنف والعنصرية في بعض الأحيان. ودان، في خطابه، حادث الضرب المميت الذي تعرّض له في ممفيس مواطن يدعى تاير نيكولز (29 عاماً)، لكنه استمرّ في معارضته المعروفة للدعوات الخاصة بوقف تمويل الشرطة، وهي دعوات تصدر بين حين وآخر من أوساط في اليسار داخل الحزب الديمقراطي، مكتفيا، على هذا الصعيد، بحث الكونغرس على تمرير مشروع قانون لإصلاح الشرطة. على صعيد آخر، عبّر بايدن عن قلقه من تزايد وتيرة الحوادث الناجمة عن الاستخدام المفرط للأسلحة التي يجيز القانون الأميركي للأفراد حيازتها، وجدّد دعوته إلى اتخاذ إجراءات أقوى للحدّ من اقتناء الأسلحة الهجومية، حتى يمكن الحدّ من عمليات إطلاق النار الجماعية التي تكرّرت كثيرا في يناير/ كانون الثاني الماضي.

القضايا الاجتماعية: تواجه الولايات المتحدة قضايا اجتماعية عديدة، مثل قضايا الهجرة غير الشرعية والمخدّرات والاجهاض وغيرها، وهي قضايا حرص الرئيس بايدن على تناولها في خطابه، لكنه خصّ قضية الإجهاض باهتمام أكبر، خصوصا أن المحكمة العليا كانت قد أقدمت على إلغاء قرار تاريخي يحمي الحقّ في الإجهاض، استمر ما يقرب من نصف قرن. وكان موقف بايدن من هذه القضية واضحا، بل ومتحديا في الوقت نفسه، حيث دعا الكونغرس إلى استعادة حق الإجهاض، وتعهّد باستخدام حق النقض ضد أي حظر للإجهاض يصل إلى مكتبه، مؤكّدا أن إدارته ستبذل كل ما في وسعها لحماية الرعاية الإنجابية وخصوصية المرضى.

نخلص مما تقدّم إلى أن بايدن كان يلقي خطابه عن "حالة الاتحاد" هذا العام وعينه على انتخابات الرئاسة الأميركية التي يبدو أنه عازم على خوضها، وهو ما قد يفسّر إهماله الشديد قضايا السياسة الخارجية، رغم خطورة ما يواجهه العالم من تحدّيات جسام.