قتيل الدعسة الناقصة

قتيل الدعسة الناقصة

29 اغسطس 2023
+ الخط -

مقابل السؤالين الأكثر تداولاً وإلحاحاً في هذه الأيام الساخنة، وهما من قتل رئيس مليشيا فاغنر، يفغيني بريغوجين، بكل هذا الاحتراف والمهنية؟ ثم ما هو مصير هذه المجموعة المكوّنة من أشقياء وقتلة وقوميين متعصبين، بعد نبذها وقطع رأسها بسادية مفرطة؟ آن لمتابعي الحرب الأوكرانية، خصوصا المحللين الاستراتيجيين، أن يستخلصوا لنا الدروس المستفادة من خصخصة الحرب الماثلة في نتائج تجربتين فاشلتين، ارتبطتا بغزوتين كبيرتين قارفتهما دولتان جبّارتان عسكرياً، أولاهما وقعت في العراق قبل نحو عقدين، وكانت "بلاك ووتر" الأميركية رمزها المشين وعارها الأبدي، والثانية جرت وانتهت في أوكرانيا قبل نحو شهرين فائضين بالدماء والأشلاء. 
وفيما سنترك المجال للمحللين ذوي الخبرة والثقافة العسكرية أن يقلّبوا ما تيسّر لهم من صفحات هاتين التجربتين الوحشيتين، يحسُن بنا، نحن معشر الكتاب والصحافيين، الخوض في غمار  السؤالين الأكثر إلحاحاً، لعل أحدنا يصيب سهماً، ويفضّ جانباً من التباسات هذه الواقعة التي استأثرت بجلّ التعليقات المتراوحة بين القراءات الرغائبية ووجهات النظر المسبقة، وبين المرافعات الدفاعية المتهافتة عن العراب الذي لا يعرف التسامح مع معارضيه في العائلة المافياوية، على نحو ما بدت عليه جوقة المنشدين في كورس البروباغندا الروسية، بمن فيهم من سبق له أن قال في بريغوجين، غداة تمرّده على القيصر، أكثر مما قاله الإمام مالك في شرب الخمر. 
كان مصير بريغوجين قد كُتب بالبنط العريض على سور الكرملين في الساحة الحمراء يوم تمرده على القيصر، حيث بدت كل الأيام اللاحقة بمثابة وقت بدل ضائع من حياة "طبّاخ الريّس" المتهوّر، انتظر خلالها مروّض الدببة ترك وجبة الانتقام على الطاولة حتى تبرُد قليلاً، سيما وأنه يفضل تناول الحساء بارداً، ثم أنزل غضبه الساحق الماحق على غريمه الذي كبرت شعبيته بسرعة صاروخية، وصار بطلاً قومياً على خلفية معركة باخموت، التي أنقذت سمعة العسكرية الروسية، وهو أمر لا يحتمله صاحب أي سلطة في عُقر داره، حتى وإن كان في مستوى عبد الفتاح البرهان أو خليفة حفتر، فما بالك إذا كان الحال في بلدٍ يموت فيه المعارضون بالانتحار أو بالسكتة الدماغية المفاجئة؟
لم تكن هذه هي الخطيئة الوحيدة التي وصفها سيد الكرملين بالخيانة والطعن في الظهر، وقال إنه لن يتسامح مع مقترفها، بل كانت المقدّمة العريضة لخطيئةٍ لاحقة أشد هولاً، ارتكبها بريغوجين بحقّ نفسه، فبدت هذه الفعلة الطائشة بمثابة المسمار الأول الطويل في نعش الصديق العتيق لربّ البيت الآمر الناهي في بلاطه، المرتاب بحسّه الأمني المفرط إزاء كل منافس حوله، ونعني بها الدعسة الناقصة، هذه التي سار فيها قائد "فاغنر"، على رأس قوة مدجّجة من خمسة آلاف مقاتل، انطلقت من مقرّ قيادة "العملية الخاصة" في روستوف إلى موسكو، على طول 500 كيلو متر، من دون أن يعترض سبيلها شرطي مرور واحد، ثم توقّف فجأة بصورة غير مفهومة على أبواب العاصمة التي لم يكن لديها قوات احتياطية لصدّ القافلة المؤللة، سوى عربات نقل القمامة التي دفع بها العمدة على المدخل الجنوبي، لإيقاف زحف القوّة المجحفلة.
عادة ما تنجم الدعسة الناقصة عن سوء تقدير أو عن قصور فهم، أو ربما عن استعجال، ولا تؤدّي سوى إلى تمزّق في أربطة الكاحل على أسوأ احتمال، كما أنها ترمز، على نحو مجازي، إلى النقصان والانكفاء المباغت لأمرٍ ما، وهو ما ينطبق بالتمام والكمال على دعسة بريغوجين المثيرة للخيال، حيث أدّت إلى تمزيق شركته الأمنية الخاصة شر ممزّق، ومن ثمّة إزهاق روحه على رؤوس الأشهاد بصورة استعراضية مدويّة، كي يصير المتخايل بنفسه عبرة لغيرِه من المتطلعين خلسة نحو سدة السلطة، التي لا يتّسع مقعدها إلا لسيد واحد لا منافس له، ولا يجري الصراع حولها في بلاد راسبوتين إلا بين قاتل ومقتول.
ولا أحسب أن مآلات مليشيا فاغنر إلا تحصيل حاصل لهذه الدعسة الناقصة بمعايير لعبة الروليت الروسية، فقد انتهت فاغنر في واقع الأمر نهاية مماثلة لخاتمة قائدها، أو قل مآل بانيها، ملهما وروحها المتقدة، الأمر الذي يعيد إلى الذاكرة فيلق القدس الإيراني بعد مقتل قائده قاسم سليماني، حيث فقد هذا الفيلق مَضاءه وقوّة دفعه، ولم يعُد له ذلك الحضور الطاغي في المشرق العربي، سيما في العراق الذي كانت مفاتيحه بيد سليماني، يفتح الأبواب ويُغلقها وفق مصالح طهران، فيما يبدو خليفته إسماعيل قاآني مسكيناً، يتوارى خلف ظله.