قتلة زهرة القمر

10 نوفمبر 2023
+ الخط -

كنتُ جالسة على الشاطئ، قبل الغروب، مبتعدة عن ضغط الحياة والناس بعض الوقت. جلبتُ معي حبّات كستناء اقتنيتُها من بائع كان يشويها أمام محلّ بقالة، ذهبت إليه لأشتري شيبسا ولم أجد لديه ما أريد، ذلك كله لتحسين مزاجي السيئ لأستطيع الكتابة. لم أعد أجد رغبة في الكتابة عن غزّة، مع هذا العجز، ولا قلب لي للكتابة عن شيءٍ آخر. فما أتفه كل شيء أمام ما يحدُث.

بدأتُ أقشّر الحبّات وأتناولها مباشرة، مُستعذبة طعمها، وصوت قرمشة قشورها. بعد فترة بدأت أنظر إلى الحبّات وأنا أخلع قشرتها، واكتشفت أن اختلاف طعمها بين الحبّة والأخرى، كان سببه أن بعضها لم يكن طريّا. ولأنني لم أكن أنظر، فاتني أن أعي حالتها التي ساءت مع الزمن، وانتهت متعتي سريعاً.

هكذا هي كل الأشياء، أكثر متعةً إذا تعامينا عن حقيقتها، فيُمكننا أن نغمض أعيننا ونهرب مما يحدث الآن من إبادة ومن مشاركة عالمية فيها. ونعيش الحياة بلا تدقيق في تفاصيلها حتى ننعم بطعمها. كما قد يفعل بعضُنا، ممن يمتلك القدرة على الهرب فعلا إلى الطبيعة أو إلى القرى ليعيش بعيداً عن ضجيج العالم المتوحّش، هو الذي لا يقدر على تغيير نقطة في الذي يحدُث. لكن ماذا بعد؟ ألم يكن الإنسان القديم مقيماً بعيداً في أرض اختارها لبُعدها عن الناس، مفضّلا ألّا يعلم عن بقية العالم شيئًا. إلى أن يمرّ الغُزاة على بيته الذي بناه بيديه ويُحرقوه. حتى الذين سكنوا في جزيرة، لا يستدلّ عليها إنسٌ أو جن. مثل السكان الأصليين في أميركا، طاردهم الافتراء البشري، كما طارد بقية العالم النائي من الأمازون إلى أدغال أفريقيا.

فلا يمكن حقاً أن يُترك إنسان في شأنه، كليّاً، في أي زمان. رغم أنه يمكن في جل مناطق العالم الآن أن يعيش المرء فعلا خارج تجمّعات البشر من دون أن يمرّ على بيته غُزاة. لكن ماذا عن المناطق غير المحظوظة؟ تلك التي تقع بين الصراعات أو في مناطق استراتيجية أو التي تجاور كيانا عنصريا قائما على الإجرام مبدأ وجود.

يمكن أن يغضّ المرء بصره عما يحدُث للآخرين، لكن إذا كان مرشّحاً ولو بنسب قليلة فلن يفيده الهرب ولا العمى. كما أنّه لا وزن للناس كأفراد في موازين القوى، التي تطحن الأقلّ حيلة حتى لو كان ذا حيلة متوسّطة. لكن قوة الفرد في الحشد، في الانضمام إلى مجموعة أفراد قد لا يجمعها دين أو جنسية أو مصلحة لكن قد تجمعها قضية عابرة للحدود. وما من قضيةٍ أهم من الإنسان. وحالما يؤمن جل الناس بذلك سيحدُث التغيير، وإلا سيظلّ أصحاب المال والنفوذ فوق كل فرد، وفوقهم الذين أقوى منهم. والكياناتُ، مثل الأفراد، تحتاج التكتّل ليعلو صوتها. ولكن يبدو أن دول منطقتنا مصرّة على البقاء بعيداً عن التضامن مع بعضها، معتقدةً أن هذا يجعلها بعيدة عن الخطر، بينما الحقيقة أنه يحوّلها إلى أهدافٍ سهلة فقط.

كان بودي أن أكتب عن فيلم مارتن سكورسيزي الجديد (Killers of the Flower Moon) "قتلة زهرة القمر"، وعلاقته مع حدث الساعة، الذي يحدُث منذ سبعين سنة. وهو الفيلم الهائل عن سرقة الأرض والحقوق، وقتل أصحابها، كأن سكورسيزي يعني ما يعنيه عما نراه الآن ولو أنه لا يفعل. لن أُفصّل في أداء ليوناردو ديكابريو أو روبيرت دينيرو اللذيْن يستحقان الأوسكار، أو في انبهاري بليلي غلادستون التي تستحقّ بدورها أوسكارا عن أدائها، مع سكورسيزي أيضا بعد هذه التحفة الفنية والإنسانية التي تفوّق بها على "همومه السينمائية" التي لم تحفر يوما أبعد إلى هذه الدرجة.

فما فعله الرجل الأبيض مع السكان الأصليين أكثر من مجرد احتلال. فاحتُلوا وسُرقوا وقُتلوا، ولمّا لم يبق إلّا القليل منهم، مُنحوا محميّاتٍ لم يسلموا فيها من الأذى، لمّا انفجرت أنهار النفط فيها، فحلّ الرجل الأبيض، ليمارس سلوكه الاعتيادي الشجع، لتلتقي حكايتهم مع حكاية الفلسطينيين مع الاحتلال الإجرامي، الذي لم يعد يكتفي بالسرقة، بل بدأ خطّة الإبادة. هي إشارة فقط، ولا بد من عودة إلى "قتلة زهرة القمر".

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج