قاطعوا كل مثقف متخاذل

14 سبتمبر 2021
+ الخط -

ربما لم يعد خافياً على أحد أن المثقف العربي سجل تراجعا في دوره الطليعي والقيادي إلى الحد الذي بات معه هذا الغياب وكأنه أزلي، فلم يعد هناك من أحدٍ يسأل أين المثقفون؟ أين الطبقة الواعية في هذا المجتمع أو ذاك؟ ليس لهذا التراجع ما يبرّره سوى ما يمكن وصفه بإيثار السلامة وسط عالم هائج مائج، وسلطات تسعى إلى أن ترسم أدورا لهذا المثقف، وفقا لما تريده هي، وليس ما على المثقف أن يفعله. وقد جعل هذا الغياب القسري أو الإرادي لبعض هؤلاء المثقفين المجتمعات العربية يديرها أنصاف مثقفين، أو حتى جهلة، تدير بهم من خلالها السلطات ماكينة التوجيه والتأثير لما تبحث عنه أو تريده هي. وذاك لعمري ديدن السلطة منذ وجدت، ومنذ بدأ أول اصطدام بينها وبين المثقف، فسقراط مثلا، وعندما كان عضوا في مجلس الشيوخ اليوناني، رفض قرار الإعدام بحق الجنرالات الذين وجهت إليهم تهمة التخلّي عن القتلى والجرحى في معركة أرغنوسي، ما دفع السلطة إلى محاولة توريط سقراط بالطلب منه وأعضاء آخرين جلب حاكم مدينة سلاميز من أجل إعدامه، وهو الأمر الذي رفضه سقراط ، قائلا "لن أرفض فلسفتي حتى ألفظ النفس الأخير"، فدفع حياته ثمنا لمواقفه وإيمانه بعدالة قضيته. وقد لا يكون سقراط الوحيد الذي دافع عن أفكاره بوجه السلطة الغاشمة، بل ربما في التأريخ الإسلامي ما يمكن اعتباره ثورة في مواجهة السلطات الغاشمة، حتى التي كانت تتستر بستار الدين، كيف لا وفي الحديث الشريف ما يدفع باتجاه رفض الظلم، حتى لو كلف هذا الرفض حياة الإنسان... يقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر".

عملت الأنظمة العربية عقودا على تدجين المثقف، سواء بترهيبه أو ترغيبه، وبقيت قلة قليلة ممن يحاولون أن يشقّوا عصا طاعة ولاة الأمر

لقد تراجع دور المثقف العربي حتى تماهى في كثير من مواقفه مع السلطة، راجيا عفوها أو راجيا كرمها. وفي الحالين، أدّى هذا التراجع إلى أن تسود ثقافة التخلّي، وهذه واحدة من أعظم الأمراض التي منيت بها أمتنا، فاليوم من النادر جداً أن تجد المثقف العربي متصدّراً المشهد العام، ومتصدّيا لما يجب أن يتصدّى له، بحكم أنه أمتلك أدوات المعرفة وغاياتها، وبات أكثر قدرةً على أن يقول ما يجب أن يقال، من أجل مجتمعه وأمته، فما بال هذا المثقف بات عبئا، وليس متخلياً فقط عن دوره؟
لقد عملت الأنظمة العربية عقودا على تدجين المثقف، سواء بترهيبه أو ترغيبه، وبقيت قلة قليلة من أولئك المثقفين الذين يؤمنون بدورهم التنويري، ممن يحاولون أن يشقّوا عصا طاعة ولاة الأمر، مشاكسين ومشاغبين لهم بين الفينة والأخرى، غير أن هذا القليل لم يعد مؤثّرا، بعد أن غيبته وسائل التكنولوجيا الحديثة، وهو الذي سعى في أرض الله مهاجراً، مبتعداً عن ديار العرب التي تعرفه، وتعرف حتى رقم الناقة التي يستقلها.
يمثل تراجع دور المثقف انتكاسة كبيرة، ولكن الانتكاسة الأكبر تبقى في تحوّل كثيرين من هؤلاء المثقفين إلى أبواق للسلطة، راغبين أو راهبين، بل إن كثيرين منهم لم ينبس ببنت شفة، وهو يشاهد ما يجري حوله من مجازر مروّعة، ترتكب باسم القومية أو الدين، أو حتى باسم السيادة وحق الدولة، وكأنهم لا يعيشون أوجاع هذه الأوطان التي حملتهم ذات يومٍ على أكتافها، وأذاعت إبداعهم ولقنته للأبناء وحتى الأحفاد.

برهنت ثورات الربيع العربي أن تخلّي المثقف عن دوره التنويري كان باهظا

المطلوب اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، فضح كل مثقفٍ تخلّى عن دوره، فضح كل من حول كلماته إلى رصاصات موتٍ في أجساد الضحايا، فضح كل من ارتضى أن يكون ابنا بارّا لأنظمة التدجين والترويع والقتل والترهيب، فالأمة اليوم بحاجةٍ، أكثر من أي وقت مضى، للمثقف الذي يعرف دوره ويعيه، للمثقف الذي يواجه السلطة وجبروتها، حتى لو اضطره ذلك أن يدفع الثمن من حياته.
برهنت ثورات الربيع العربي أن تخلّي المثقف عن دوره التنويري كان باهظا، حيث كفرت الشعوب الثائرة؛ بسنوات من الخداع التي كانت تُمارس عليها من مثقفي لغة الضاد، ممن كانوا يدفعون بهم إلى الثورة بوجه الظلم واسترداد الحقوق والحرية والكرامة، غير أنهم انسحبوا مع أول مواجهةٍ مع هذه الأنظمة. بالتالي، لا بد من حركةٍ تصحيحية يقودها الشعب، المجتمع عامة، ويكون ذلك من خلال مقاطعة جماهيرية لكل مثقفٍ لم يقل كلمة حق بوجه سلطان جائر، بوجه كل سلطة واجهت شعوبها بالرصاص.
الشعوب العربية اليوم في مرحلة إعادة استكشافٍ لذاتها ووعيها. وبالتالي، فإنها بحاجةٍ ماسّة جدا أيضا لإعادة استكشاف ثقافتها ومثقفيها، فلم يعد مقبولا بعد اليوم أن تصفّق هذه الأمة لمن آثر السلامة من مثقفيها، ولم يعد مقبولا أن تبقى هامات بعضٍ من هؤلاء المثقفين مرفوعة، بينما تُدكّ مدنٌ وتُقصف بلداتٌ ويدفن أطفالٌ تحت أنقاض منازلهم، فإما أن ينزل هذا المثقف عن برجه العاجي ليقول للجزار لا، أو أن يُخلي الطريق لآخرين ممن بدأت أقلامهم تنثر بياض مواقفهم بحبر الموقف، لا بحبر التزلّف للسلطات.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...